هل إنتشر الإسلام بحد السيف ؟؟
من الأكاذيب التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين أن الإسلام قام على السيف وأنه لم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار ، وإنما دخلوا فيه ، بالقهر والإكراه ، وقد اتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجني الكاذب الآثم ، وشتان ما بين تشريع الجهاد وما بين إكراه الناس على الإسلام فإن تشريع الجهاد لم يكن لهذا ، وإنما كان لحكم سامية ، وأغراض شريفة .
وهذه الدعوى
الباطلة الظالمة كثيراً ما يرددها المبشرون والمستشرقون ، الذين يتأكلون من الطعن
في الإسلام وفي نبي الإسلام ، ويسرفون في الكذب والبهتان ، فيتصايحون قائلين :
أرأيتم ؟!! هذا محمد يدعو إلى الحرب ، وإلى الجهاد في سبيل الله ، أي إلى إكراه
الناس بالسيف على الدخول في الإسلام ، وهذا على حين تنكر المسيحية القتال ، وتمقت
الحرب ، وتدعو إلى السلام ، وتنادي بالتسامح ، وتربط بين الناس برابطة الإخاء في
الله وفي السيد المسيح عليه السلام .
وقد فطن لسخف هذا
الادعاء كاتب غربي كبير هو : ( توماس كارليل ) صاحب كتاب الأبطال وعبادة البطولة ،
فإنه اتخذ نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام ، مثلاً لبطولة النبوة ، وقال ما
معناه : ( إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على
الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه
ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومهم ، فقد
آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها ) [ حقائق
الإسلام وأباطيل خصومة للعقاد صـ227] .
ومن الإنصاف أن
نقول : إن بعض المستشرقين لم يؤمن بهذه الفرية ، ويرى أن الجهاد كان لحماية الدعوة
، ورد العدوان ، وأنه لا إكراه في الدين .
هل المسيحية تنكر القتال ؟
وأحب قبل الشروع
في رد هذه الفرية أن أبين كذب مزاعمهم في أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه ،
وتمقت الحرب ، وتدعو إلى السلام ، من الكلام المنسوب إلى السيد المسيح نفسه -من
كتبهم - قال : " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي
سلاماً بل سيفاً ، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه ، والابنة ضد أمها ، والكنة ضد
حماتها ، وأعداء الإنسان أهل بيته . من أحب أبا أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ،
ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني ، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا
يستحقني ، من وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها " ( إنجيل متى
- الإصحاح العاشر فقرة 35 وما بعدها) فما رأي المبشرين والمستشرقين في هذا ؟
أنصدقهم ونكذب الإنجيل ؟ أم نكذبهم ونصدق الإنجيل ؟! الجواب معروف ولا ريب .
وأما التوراة
فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن تحصى ، على ما فيه من الصرامة وبلوغ الغاية
في الشدة ، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين آداب الحرب في الإسلام ، وغيره
من الأديان .
دلائل الوقع على افترائهم :
وليس أدل على
افترائهم من أن تاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث شاهد عدل على رد دعواهم ،
فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا ، خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد
المسيح .
خضَّبها الرومان
، وخضَّبتها أمم أوروبا كلها ، والحروب الصليبية إنما أذكى المسيحيون ـ ولم يذك
المسلمون ـ لهيبها ، ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال مئات السنين
قاصدة أقطار الشرق الإسلامية ، تقاتل ، وتحارب ، وتريق الدماء وفي كل مرة كان
البابوات خلفاء المسيح - كما يزعمون - يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على
بيت المقدس ، والبلاد المقدسة عند المسيحية ، وتخريب بلاد الإسلام .
أفكان هؤلاء
البابوات جميعاً هراطقة ، وكانت مسيحيتهم زائفة ؟! أم كانوا أدعياء جهالاً ، لا
يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟! أجيبونا أيها المبشِّرون والمستشرقون
المتعصبون !! .
فإن قالوا : تلك
كانت العصور الوسطى عصور الظلام - عندهم - ، فلا يحتج على المسيحية بها ، فماذا
يقولون في هذا القرن العشرين الذي نعيش ، والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية
الراقية ؟ ! .
لقد شهد هذا
القرن من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية ، ما شهدت تلك العصور الوسطى
المظلمة - عندهم - بل وأشد وأقسى !!. ألم يقف ( اللورد اللنبي ) ممثل الحلفاء :
إنجلترا ، وفرنسا ، وإيطاليا ، ورومانيا ، وأميركا ، في بيت المقدس في سنة 1918 ،
حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلاً: ( اليوم انتهت الحروب
الصليبية )؟! .
وألم يقف الفرنسي
( غورو ) ممثل الحلفاء أيضاً - وقد دخل دمشق - أمام قبر البطل المسلم ( صلاح الدين
الأيوبي ) قائلاً ( لقد عدنا يا صلاح الدين ) ؟!!
وهل هدمت الديار ، وسفكت الدماء ،واغتصبت الأعراض في البوسنة والهرسك إلا باسم الصليب؟
وهل هدمت الديار ، وسفكت الدماء ،واغتصبت الأعراض في البوسنة والهرسك إلا باسم الصليب؟
بل أين هؤلاء مما
حدث في الشيشان - ومازال يحدث -؟ وفي إفريقيا ؟واندونيسيا ؟ و...غيرها ؟ وهل
يستطيع هؤلاء إنكار أن ما حدث في كوسوفا كان حربا صليبية ؟
إن الإسلام إنما
غزا القلوب وأسر النفوس بسماحة تعاليمه : في العقيدة ، والعبادات ، والأخلاق ،
والمعاملات ، وآدابه في السلم والحرب ، وسياسته الممثلة في عدل الحاكم ، وإنصاف
المحكومين ، والرحمة الفائقة ، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح ، إنه دين
الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس ،
واستجابت إليه الفطرة السليمة ، وتحملت في سبيله ما تحملت ، فاستعذبت العذاب ،
واستحلت المر ، واستسهلت الصعب ، وركبت الوعر ، وضحت بكل عزيز وغالٍ في سبيله.
من واقع تاريخ الدعوة الإسلامية :
والآن وقد فرغنا
من تفنيد ما بنوا عليه مزاعمهم الكاذبة ، من دعوة الإسلام إلى الجهاد ، وتحريم
المسيحية له ، فلنأخذ في تفنيد هذه الدعوى الظالمة من واقع تاريخ الدعوة الإسلامية
قبل فرض الجهاد ، ومن حكم تشريعه في الإسلام ، ومن نصوص القرآن والسنة المتكاثرة ،
ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسير خلفائه الراشدين وأصحابه ، ومن واقع
تاريخ المسلمين اليوم ، وما تعرضوا له من اضطهاد وحروب ومظالم ، لم تزدهم إلا
صلابة في التمسك بالإسلام ، والعض عليه بالنواجذ ، فأقول وبالله التوفيق :
1 - لقد مكث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاما ، وهو يدعو إلى الله بالحجة والموعظة
الحسنة ، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة من الدعوة خيار المسلمين من الأشراف
وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الثراء ما يغري هؤلاء ، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان ، وقد تحمَّل
المسلمون - ولاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم - من صنوف العذاب
والبلاء ألواناً ، فما صرفهم ذلك عن دينهم ، وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك
صلابة في الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم
ارتدّ سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه ، وإنما كانوا
كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وكالحديد لا يزيده الصهر إلا قوةً
وصلابةً ، بل بلغ من بعضهم أنهم وجدوا في العذاب عذوبة ، وفي المرارة حلاوة .
ثم كان أن هاجر
بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين ، ثم هاجروا جميعاً الهجرة الكبرى إلى المدينة ،
تاركين الأهل والولد والمال والوطن ، متحملين آلام الاغتراب ، ومرارة الفاقة
والحرمان ، واستمر الرسول بالمدينة عاماً وبعض العام يدعو إلى الله بالحكمة
والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها
عدد كثير عن رضاً واقتناع ويقين واعتقاد ، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن
للمقررات التاريخية الثابتة ، أن يزعم أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين
في هذه الأربعة عشر عاماً أو تزيد حول أو قوة ترغم أحداً على الدخول في الإسلام ،
إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح .
2- إن تشريع
الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا ، وإنما كان
للدفاع عن العقيدة وتأمين سبلها ووسائلها ، وتأمين المعتنقين للإسلام ، وردِّ
الظلم والعدوان ، وإقامة معالم الحق ، ونشر عبادة الله في الأرض ، فلما تمالأ
المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة ، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في
قوله تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من
دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن
الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَّوهم ، ومن
يتولَّهم فأولئك هم الظالمون ) (الممتحنة/8،9)
فالإسلام لم يقف
عند حدِّ أن من سالمنا سالمناه ، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم ، وعدم الجور
عليهم ، وكذلك كان موقف القرآن كريماً جداً مع الذين قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم
من ديارهم ، أو ساعدوا عليه ، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم ، وإنما نهى عن
توليهم بإفشاء الأسرار إليهم أو نصرتهم وإخلاصهم الودِّ لهم ، فإن حاربونا
حاربناهم ، وصدق الله ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا )
(البقرة/190)
3- نصوص القرآن
والسنة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذبانه ، وقدصرح الوحي بذلك في غير ما آية
قال تعالى :
( لا إكراه
في الدين ، قد تبين الرشد من الغي ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة
الوثقى لا انفصام لها ، والله سميع عليم ) (البقرة/256)
وإليك ما ذكره
ثقات المفسرين في سبب نزول هذه الآية : روي أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم
بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة في نفر
من النصارى يحملون الزيت ، فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصموا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟
فأنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين … ) الأية ، فخلَّى سبيلهما .
وقال الزهري سألت
زيد بن أسلم عن قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين … ) قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين ، فأبى المشركون إلا أن
يقاتلوه ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ، ومعنى ( لا إكراه في الدين ) أي دين
الإسلام ليس فيه إكراه عليه .
وقال سبحانه : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس/99) .
وقال سبحانه : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس/99) .
وقال :( فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف/29) .
فالآية نص في أن
من اختار الإيمان فباختياره ، ومن اختار الكفر فباختياره ، فلا إكراه ، ولكن مع
هذا التخيير فالله سبحانه يحب الإيمان ويرضاه ويدعو إليه ، ويكره الكفر ويحذر منه
، ونصوص القرآن حافلة في هذا المعنى ، ولهذا عقَّب الله التخيير بقوله محذراً
ومنفراً :( إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها ) (الكهف/29) .
والكفر رأس الظلم
، فلا يتوهمن أحد أن حمل الآية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو
الرضا به، حاشا لله أن يكون هذا ، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا كثيراً من
المفسرين على حمل الآية على التهديد والوعيد ، حتى مثَّل علماء البلاغة للأمر الذي
يراد به التهديد بهذه الآية ، فالآية بنصها تخيير ، ولكنه تخيير يستلزم تهديداً
ووعيداً لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان ، وهي نصوص صريحة في عدم
الإكراه على الإسلام .
وأما السنة فقد
جاءت مؤيدة لما جاء به القرآن ، وإليك طرفاً منها : روى الإمام مسلم في صحيحه
بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في
خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال : [ اغزوا باسم الله في سبيل
الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا
تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، أو خلال ،
فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل
منهم وكُفَّ عنهم . . . فإن هم أبَوا فسَلْهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم
وكُفَّ عنهم ، فإن هم أبَوا فاستعن بالله وقاتلهم ] ، وهكذا ترى أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية ، وليس بعد
استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب ، و في هذا السياق فإن الجزية ليست
للإرغام على الإسلام ، وإنما هي نظير حمايتهم وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم ،
وليس أدل على هذا مما رواه البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين
الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا
أخذوا منهم من الجزية وقالوا : ( قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم
) فقال أهل حمص : ( لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ،
ولندفعن جند هرقل ـ مع أنه على دينهم ـ عن المدينة مع عاملكم ) ، وكذلك فعل أهل
المدن التي صولحت من النصارى واليهود .
وقالوا : إن ظهر
الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه ، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي
للمسلمين عدد …
وقد يقول قائل
فما تقول في الحديث الشريف : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ] ؟
قلنا : المراد
بالحديث فئة خاصة ، وهم وثنيو العرب ، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى
فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها حديث مسلم .
على أن بعض كبار
الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في
التخيير بين الثلاثة : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، واستدلوا بحديث مسلم
السابق .
وإذا نظرنا بعين
الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب ، لا نجده يجافي الحق
والعدل ، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن
الإسلام إلا فعلوها ، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول ، فهو عربي من أنفسهم والقرآن
عربي بلغتهم ، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر ، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوِّقون
لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم .
هذا إلى أن الشرك
مذهب فاسد ، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل ، من قتل أو نفي أو
سجن ، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث . وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل
سلامتها ، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الآلاف من الأرواح ، ويغمض
الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون ، فهل هذا حلال لهم ، حرام على غيرهم
؟! .
فالإسلام حينما
لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق ، وأصبحوا قلة
تعتنق مذهباً فاسداً بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختياراً
لم يكن متجنياً ولا ظالماً ، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلاً للمفترين على
الإسلام .
سماحة و رحمة :
4- ويرد هذه
الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته من
التسامح مع أناس أُسروا وهم على شركهم ، فلم يلجئهم على الإسلام ، بل تركهم
واختيارهم .
فقد ذكر الثقات
من كُتَّاب السير والحديث أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة ـ
ثمامة بن أُثال الحنفي - وهم لا يعرفونه ، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعرفه وأكرمه ، وأبقاه عنده ثلاثة أيام ، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام
عرضاً كريماً فيأبى ويقول : إن تسأل مالاً تُعطه ، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ ، وإن
تنعم تنعم على شاكر ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه .
ولقد استرقت قلب
ثمامة هذه السماحة الفائقة ، وهذه المعاملة الكريمة ، فذهب واغتسل ، ثم عاد إلى
النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً مختاراً ، وقال له : [ يا محمد ، والله ما كان
على الأرض من وجه أبغض إليَّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى . والله ما
كان على الأرض من دين أبغض إلىَّ من دينك ، فقد أصبح دينك أحب الدين إليَّ . والله
ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك ، فقد أصبح أحب البلاد إلي َّ ] .
وقد سر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإسلامه سروراً عظيماً ، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه ، ولم
يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له آثار بعيدة
المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية ، فقد ذهب مكة معتمراً ، فهمَّ أهلها أن يؤذوه
ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة ، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئاً من
الحبوب حتى يؤمنوا ، فجهدوا جهداً شديداً فلم يرَوا بُدّاً من الاستغاثة برسول
الله صلى الله عليه وسلم .
ترى ماذا كان من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب
عنهم إلى الإيمان ؟ لا ، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح ، وأن لا إكراه في
الدين ، فكتب إلى ثمامة أن يخلِّي بينهم وبين حبوب اليمامة ، ففعل ، فما رأيكم أيها
المفترون ؟ .
بل امتد أثر
دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة الصادقة إلى ما بعد حياة النبي ،
ذلك أنه لما ارتد بعض أهل اليمامة ، ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام ،
وصار يحذر المرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب ، ويقول لهم : ( إياكم وأمراً مظلماً
لا نور فيه ، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم ، وبلاء على من لم
يأخذ به منكم ) ، ولما لم يجد النصح معهم خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا
للعلاء بن الحضرمي مدداً له ، فكان هذا مما فتَّ في عضد المرتدين ، وألحق بهم
الهزيمة .
عفو وحلم :
و إليك قصة أخرى
: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ودخلها ظافراً منتصراً كان صفوان بن أمية
ممن أهدرت دماؤهم ؛ لشدة عداوتهم للإسلام ، والتأليب على المسلمين ، فاختفى وأراد
أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر ، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال : يا نبي الله
، إن صفوان سيد قومه ، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمِّنه ، فأعطاه عمامته ،
فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له : ( فداك أبي وأمي . جئتك من عند أفضل الناس
وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، وهو ابن عمك ، وعزه عزك ، وشرفه شرفك ،
وملكه ملكك ) فقال صفوان : إني أخافه على نفسي .
قال عمير : هو
أحلم من ذلك وأكرم ، وأراه علامة الأمان و هي العمامة ؛ فقبل برده ، فرجع إلى رسول
الله فقال : إن هذا يزعم أنك أمنتني ، فقال النبي : " صدق " . فقال
صفوان : أمهلني بالخيار شهرين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل
أربعة أشهر ) ، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه.
فهل بعد هذه
الحجج الدامغة يتقوَّل متقوِّل على الإسلام زاعماً أنه قام على السيف والإكراه ؟ !
.
5 - ثم ما رأي
المبشرين والمستشرقين في أن من أكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة
سانحة له ؟ بل ويصبح حرباً على هذا الذي أكره عليه ؟ ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا
، فنحن نعلم أن العرب ـ إلا شرذمة تسور الشيطان عليها ـ ثبتوا على ما تركهم عليه
الرسول ، وحملوا الرسالة ، وبلَّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة
، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى
بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان ، ومن يطَّلع على ما صنعه
العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم
رخيصة لله ، لا يمكن أن يكون قد تطرق الإكراه إلى قلوبهم ، وفي صحائف البطولة التي
خطوها أقوى برهان على إخلاصهم وصدق إيمانهم ، وسل سهول الشام وسهول العراق ، وسل
اليرموك والقادسية ، وسل شمال إفريقيا تخبرك ما صنع هؤلاء الأبطال .
6- ثم ما رأي
هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمَّا ذهبت ريحهم ، وانقسمت دولتهم
الكبرى إلى دويلات ، وصاروا شيعاً وأحزاباً وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل
كمحنة التتار ، والصليبيين في القديم ، ودول الاستعمار في الحديث ، وكل محنة من
هذه المحن كانت كافية للمكرهين على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه ، فأين هم
الذين ارتدوا عنه ؟ أخبرونا يا أصحاب العقول !!.
إن الإحصائيات
الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد
وما تعرضوا له من عوامل الإغراء ، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب
عودا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة .
بل ما رأي هؤلاء
في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه ؟ وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة
العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا ، والصين ، وبعض أقطار إفريقيا ، وأوروبا
وأمريكا ، فهل جرَّد المسلمون جيوشاً أرغمت هؤلاء على الإسلام ؟ ألا فليسألوا
أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها ، وسيجدون عندهم النبأ اليقين .
لقد انتشر
الإسلام في هذه الأقطار بسماحته ، وقربه من العقول والقلوب ، وها نحن نرى كل يوم
من يدخل في الإسلام ، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام ، ولو
كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل
التبشير بدينهم وحضارتهم ، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام . ولن ترى ـ إن
شاء الله ـ من يحل عروة الإسلام من عنقه أبداً مهما أنفقوا في سبيل دعاياتهم
التبشرية ، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية .
أما بعد : فقد
لاح الصبح لذي عينين ، وتبيَّن الحق لكل ذي عقل وقلب ، وما إخالك ـ أيها القاريء
المنصف ـ إلا إزددت بسماحة الإسلام وسماحة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة
إليه ، وأن ما ردَّده المستشرقون والمبشرون ما هو إلا فرية كبرى :
( كبرت كلمةً
تخرج من أفواههم ، إن يقولون إلا كذبا ) (الكهف/5)
الإثنين : 09/12/2002
الإثنين : 09/12/2002
(الشبكة
الإسلامية)السيرة النبوية للشيح: محمد أبوشهبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق