المتابعون

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 يوليو 2022

من سورة المائدة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٧_١١ 
من سورة المائدة 
﴿وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمِیثَـٰقَهُ ٱلَّذِی وَاثَقَكُم بِهِۦۤ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (٧) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰ⁠مِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ۚ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (٨) وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرٌ عَظِیمࣱ (٩) وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ (١٠) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن یَبۡسُطُوۤا۟ إِلَیۡكُمۡ أَیۡدِیَهُمۡ فَكَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (١١)﴾ [المائدة ٧-١١]

يَقُولُ تَعَالَى مُذكرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ نعمتَه عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ، وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ، وَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي مُبَايَعَتِهِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ وَإِبْلَاغِهِ عَنْهُ وَقَبُولِهِ مِنْهُ، فَقَالَ [تَعَالَى](١) ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي كَانُوا يُبَايِعُونَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهَا عِنْدَ إِسْلَامِهِمْ، كَمَا قَالُوا: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ"، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الْحَدِيدِ: ٨] وَقِيلَ: هَذَا تِذْكَارٌ لِلْيَهُودِ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ فِي مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالِانْقِيَادِ لِشَرْعِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ تِذْكَارٌ بِمَا أَخَذَ تَعَالَى مِنَ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] قَالَهُ مُجَاهِدٌ، ومُقَاتِل بْنُ حَيَّان. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والسُّدِّي. وَاخْتَارَهُ(٢) ابْنُ جَرِيرٍ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَأْكِيدٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُوَاظَبَةِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ.ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَتَخَالَجُ فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلا فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهد رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ: "أُكَلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي(٣) أَوْلَادِكُمْ". وَقَالَ: "إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر". قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.(٤)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾ أَيْ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْض قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ، صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أَيْ: عَدْلُكم أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ. وَدَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النُّورِ: ٢٨]
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى](٥) ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَكَقَوْلِ(٦) بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.(٧)ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وَهُوَ: الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ، بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أعمالهم، وهو تعالى الَّذِي جَعَلَهَا أَسْبَابًا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَالْكُلُّ مِنْهُ وَلَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَحِكْمَتِهِ وحُكْمه الَّذِي لَا يَجُورُ فِيهِ، بَلْ هُوَ الحَكَمُ الْعَدْلُ الْحَكِيمُ(٨) الْقَدِيرُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ(٩) ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا وتَفَرّق النَّاسُ فِي العضَاه يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ ﷺ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ(١٠) ﷺ فَأَخَذَهُ فسلَّه، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: "اللَّهُ"! قَالَ الْأَعْرَابِيُّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: "اللَّهُ"! قَالَ: فَشَام الْأَعْرَابِيُّ السَّيْفَ، فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ -وَقَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ(١١) قَتَادَةُ يَذْكُرُ نَحْوَ هَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَرَادُوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَرْسَلُوا هَذَا الْأَعْرَابِيَّ، وَتَأَوَّلَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ الْآيَةَ.وَقِصَّةُ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ -وَهُوَ غَوْرَث بْنُ الْحَارِثِ-ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ.(١٢)وَقَالَ العَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ صَنَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ طَعَامًا لِيَقْتُلُوهُمْ(١٣) فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ، فَلَمْ يَأْتِ الطَّعَامُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهَ فَلَمْ يَأْتُوهُ(١٤) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَغْدروا بِمُحَمَّدٍ [ﷺ](١٥) وَأَصْحَابِهِ فِي دَارِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار، وَمُجَاهِدٌ وعكْرِمَة، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي النَّضير، حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ(١٦) ﷺ الرحَى، لَمَّا جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي(١٧) ديَةِ العامرييْن، وَوَكَّلُوا عَمْرَو بْنَ جَحَّاش بْنِ كَعْبٍ بِذَلِكَ، وَأَمَرُوهُ إِنْ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ تَحْتَ الْجِدَارِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ أَنْ يُلْقِيَ تِلْكَ الرَّحَى مِنْ فَوْقِهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى مَا تَمَالَؤُوا(١٨) عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [تَعَالَى](١٩) فِي ذَلِكَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ثم أمر رسول اللَّهِ ﷺ أَنْ يَغْدُوَ إِلَيْهِمْ فَحَاصَرَهُمْ، حَتَّى أَنْزَلَهُمْ فَأَجْلَاهُمْ.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يَعْنِي: مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَعَصَمَهُ.

(١) زيادة من أ.
(٢) في ر، أ: "واختيار".
(٣) في أ: "بينكم".
(٤) صحيح البخاري برقم (٢٥٨٦) وصحيح مسلم برقم (١٦٢٣) .
(٥) زيادة من أ.
(٦) في ر: "ولقول".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣٢٩٤) وصحيح مسلم برقم (١٣٩٦)
(٨) في ر: "الحليم".
(٩) في أ: "أن رسول الله".
(١٠) في ر، أ: "النبي".
(١١) في أ: "فكان".
(١٢) تفسير عبد الرزاق (١/١٨٢) ورواه البخاري في صحيحه برقم (١٣٩) من طريق عبد الرزاق به.
(١٣) في ر: "يقتلوه".
(١٤) في ر: "فأتوه".
(١٥) زيادة من أ.
(١٦) في أ: "رأس النبي".
(١٧) في ر: "على".
(١٨) في ر: "تمالوا".
(١٩) زيادة من ر، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 28 يوليو 2022

الأربعاء، 27 يوليو 2022

من سورة المائدة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦ من 
سورة المائدة 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [المائدة ٦]

قَالَ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ: قَوْلُهُ: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ مُحْدِثون.وَقَالَ آخَرُونَ: إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ.وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ آمِرَةٌ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ هُوَ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، وَفِي حَقِّ الْمُتَطَهِّرِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ كَانَ وَاجِبًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَة بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدة(١) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: "إِنِّي عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ.وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ(٢) وَوَقَعَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَار -بَدَلَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ-كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُريدة(٣) بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرْنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْبَكَّائِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ المُبَشِّر قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا بَالَ أَوْ أَحْدَثَ، تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِفَضْلِ طَهُوره الْخُفَّيْنِ. فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، شَيْءٌ(٤) تَصْنَعُهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: بَلْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ(٥) ﷺ يَصْنَعُهُ، فَأَنَا أَصْنَعُهُ، كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ [ﷺ](٦) يَصْنَعُ.(٧)وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ تَوْبة، عَنْ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ، بِهِ(٨) وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ(٩) إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّان الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، عَمَّن هُوَ؟ قَالَ: حَدَّثَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَوُضِع عَنْهُ الْوُضُوءَ، إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ، كَانَ يَفْعَلُهُ حَتَّى مَاتَ.(١٠)وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْف(١١) الحِمْصِيّ، عن أحمد بن خالد الذهني، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ(١٢) بْنِ عُمَرَ(١٣) ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ: عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ(١٤) إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَالسَّمَاعِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّان، فَزَالَ مَحْذُورُ التَّدْلِيسِ. لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّان، بِهِ، وَاللَّهُ(١٥) أَعْلَمُ. وَفِي فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا أزْهَر، عَنِ ابْنِ عَوْن، عَنِ ابْنِ سِيرين: أَنَّ الْخُلَفَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى(١٦) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَة، سَمِعْتُ مَسْعُودَ بْنَ عَلِيِّ الشَّيْبَانِيَّ، سَمِعْتُ عِكْرِمة يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ الْآيَةَ.وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْب بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرْنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ لِلنَّاسِ فِي الرّحْبة، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ(١٧) هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدث.وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْم(١٨) عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ عَلِيًّا اكماز(١٩) مِنْ حُبٍّ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا فِيهِ تَجَوُّزٌ(٢٠) فَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ ". وَهَذِهِ طُرُقٌ جَيِّدَةٌ عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٢١) يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّار، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْد، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَوْءًا فِيهِ تَجَوّز، خَفِيفًا، فَقَالَ(٢٢) هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.(٢٣) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ الْخُلَفَاءُ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ..وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ اعْتِدَاءٌ. فَهُوَ غَرِيبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ وَجُوبَهَ فَهُوَ مُعْتَدٍ، وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهُ اسْتِحْبَابًا فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ(٢٤) فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ.وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَمْرو بْنِ عَامِرٍ، بِهِ.(٢٥)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُرَيم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ -هُوَ الْإِفْرِيقِيُّ-عَنْ أَبِي غُطَيف، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْر كُتِبَ(٢٦) لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ".وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْإِفْرِيقِيِّ، عَنْ أَبِي غُطَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ.(٢٧)وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْرِيقِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ(٢٨) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ(٢٩) كَانَ إِذَا أَحْدَثَ امْتَنَعَ مِنَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا حَتَّى يَتَوَضَّأَ.حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ(٣٠) عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَة بْنِ الفَغَواء، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَاقَ الْبَوْلَ نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا، وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ الْآيَةَ.وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، به(٣١) نحوه. وهو حديث غريب جِدًّا، وَجَابِرُ هَذَا هُوَ ابْنُ يَزِيدَ(٣٢) الْجُعْفِيُّ، ضَعَّفُوهُ.وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيكة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ، فَقُدِّم إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بوَضُوء فَقَالَ: "إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ.وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيع وَالنَّسَائِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ-بِهِ(٣٣) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَتَى الْخَلَاءَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ: "لِمَ؟ أَأُصْلِي(٣٤) فَأَتَوَضَّأُ؟ ".(٣٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ قَدِ اسْتَدَلَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَهَا"، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ" أَيْ: لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ: "الْأَعْمَالُ(٣٦) بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".(٣٧) وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُضُوئِهِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ(٣٨) جَيِّدَةٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ".(٣٩)وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ(٤٠) وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِه، فَلَا يُدخل يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أحدَكم لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".(٤١)وحَدُّ الْوَجْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ -وَلَا اعْتِبَارَ بالصَّلع وَلَا بالغَمَم-إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقْنِ طُولًا وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا، وفي النزعتين(٤٢) والتحذيف خلاف، هل هما مِنَ الرَّأْسِ أَوِ الْوَجْهِ، وَفِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُغَطِّيًا لِحْيَتَهُ، فَقَالَ: "اكْشِفْهَا، فَإِنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ"(٤٣) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْوَجْهِ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ فِي الْغُلَامِ إِذَا نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ: طَلَعَ وَجْهُهُ.وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُخَلِّلَ لِحْيَتَهُ إِذَا كَانَتْ كَثَّة، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ جَمْرَة، عَنْ أَبِي وَائِلٍ(٤٤) قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ تَوَضَّأَ -فَذَكَرَ الْحَدِيثَ-قَالَ: وَخَلَّلَ اللِّحْيَةَ ثَلَاثًا حِينَ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ.رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ(٤٥) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَحَسَّنَهُ الْبُخَارِيُّ.وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَة الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو المَلِيح، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ زَوْرَانَ(٤٦) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، يُخَلِّلُ(٤٧) بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: "هَكَذَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ(٤٨) وَقَدْ رُوي هَذَا(٤٩) مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ عَنْ عَمَّارٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَرُوِّينَا فِي الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ.(٥٠)وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ(٥١) وَاسْتَنْشَقَ، فَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ: هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ؟ أَوْ مُسْتَحَبَّانِ فِيهِمَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ؟ لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمة، عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرْقِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صِلَاتِهِ: "تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ"(٥٢) أَوْ يَجِبَانِ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؟ أَوْ يجب الِاسْتِنْشَاقُ دُونَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ"(٥٣) وَفِي رِوَايَةٍ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي مَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ"(٥٤) وَالِانْتِثَارُ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، يَعْنِي أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ. ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسْلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَعْنِي يَتَوَضَّأُ.وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مَنْصُورِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ، بِهِ(٥٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ أَيْ: مَعَ الْمَرَافِقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: ٢]وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ(٥٦) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. وَلَكِنِ الْقَاسِمُ هَذَا مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَجَدُّهُ ضَعِيفٌ(٥٧) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ لِيَغْسِلَهُ مَعَ ذِرَاعَيْهِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ نُعَيم المُجْمِر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْن يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلين مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّته فَلْيَفْعَلْ".(٥٨)وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ قُتَيْبَة، عَنْ خَلَف بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ خَلِيلِي(٥٩) ﷺ يَقُولُ: "تَبْلُغُ الحِلْية مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ".(٦٠)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ "الْبَاءِ" هَلْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ. وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَالَ: هَذَا مُجْمَلٌ فَلْيُرْجَعْ(٦١) فِي بَيَانِهِ إِلَى السُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ -وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ-: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوُضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ(٦٢) وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غسل يديه مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.(٦٣)وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ(٦٤) ﷺ نَحْوُ هَذَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِثْلَهُ.(٦٥)فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ.وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ.وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَسْحٍ، لَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بحدٍّ، بَلْ لَوْ مَسَحَ بَعْضَ شَعْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ.وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ ﷺ فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: "هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ " فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ(٦٦) فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ ... وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ.(٦٧)فَقَالَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِأَنَّهُ كَمَّلَ مَسْحَ بَقِيَّةِ الرَّأْسِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْمَوْقِعِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَا(٦٨) أَوْلَى، وَلَيْسَ لَكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ أَوْ بَعْضِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَكْمِيلٍ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ إِنَّمَا(٦٩) يُسْتَحَبُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمْران بْنِ أَبَانٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ(٧٠) وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا مِثْلَ ذَلِكَ(٧١) ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحدِّث فِيْهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ ما تقدم من ذنبه ".أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَ هَذَا(٧٢) وُفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَة، عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً(٧٣) وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ.وَاحْتَجَّ مَنِ اسْتَحَبَّ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَرْدَان، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي حُمْرَانُ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ.(٧٤) فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ توضأ هَكَذَا وَقَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ دُونَ هَذَا كَفَاهُ.تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ(٧٥) ثُمَّ قَالَ: وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ قُرئ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكَرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَرَأَهَا: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ يَقُولُ: رَجَعَتْ إِلَى الْغَسْلِ.وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وعُرْوَة، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالضِّحَاكِ، والسُّدِّي، ومُقاتل بْنِ حَيَّانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، نَحْوُ ذَلِكَ.وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ، وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ(٧٦) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْتِيبَ، بَلْ لَوْ غَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ وَجْهَهُ أَجَزْأَهُ ذَلِكَ؛ لَأَنَّ الْآيَةَ أَمَرَتْ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَ"الْوَاوُ" لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَقَدْ سَلَكَ الْجُمْهُورُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ طُرُقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ ابْتِدَاءً عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّرْتِيبِ، وَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِوُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ أَوَّلًا ثُمَّ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَعْدَهُ، بَلِ الْقَائِلُ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْآيَةِ. وَالْآخَرُ يَقُولُ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ مُطْلَقًا، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ ابْتِدَاءً، فَوَجَبَ(٧٧) التَّرْتِيبُ فِيمَا بَعْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ، حَيْثُ لَا فَارِقَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنْ "الْوَاوَ" لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ -كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ النُّحَاةِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ. ثُمَّ نَقُولُ(٧٨) -بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الترتيب اللغوي-: هي دَالَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ شَرْعًا فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُرَتَّبَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ(٧٩) ﷺ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ، خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٥٨] ثُمَّ قَالَ: "أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ". وَهَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ شَرْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَدْخَلَ الْمَمْسُوحَ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ"(٨٠) قَالُوا: فَلَا يَخْلُو(٨١) إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَضَّأْ مُرَتِّبًا فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ، أَوْ يَكُونَ تَوَضَّأْ غَيْرَ مُرَتِّبٍ فَيَجِبُ عَدَمُ التَّرْتِيبِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ، فَوَجَبَ مَا ذَكَرَهُ.(٨٢)وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: ﴿وَأَرْجُلِكُمْ﴾(٨٣) بِالْخَفْضِ. فَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الشِّيعَةُ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ. وَقَدْ رُوي عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ مَا يُوهِمُ الْقَوْلَ بِالْمَسْحِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا حُمَيْد قَالَ: قَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَذَكَرَ الطَّهُورَ فَقَالَ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ مِنْ خَبَثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ، فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا عَرَاقيبهما(٨٤) فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى](٨٥) ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهما(٨٦) إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْل، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ(٨٧) قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَالسُّنَّةُ الْغَسْلُ(٨٨) وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْس الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكرِمة، عَنِ ابن عباس قَالَ: الْوُضُوءُ غَسْلتَان وَمَسْحَتَانِ.(٨٩)وَكَذَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَر المِنْقَريّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ قَالَ: هُوَ الْمَسْحُ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ(٩٠) وَعَلْقَمَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، [وَ](٩١) مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ-وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٍ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ-نَحْوُهُ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: رَأَيْتُ عِكْرِمَةَ يَمْسَحُ عَلَى رِجْلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُهُ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَلَّا تَرَى أَنَّ "التَّيَمُّمَ" أنْ يَمْسَحَ مَا كَانَ غَسْلًا وَيُلْغِيَ(٩٢) مَا كَانَ مَسْحًا؟وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرْنَا إِسْمَاعِيلُ، قُلْتُ لِعَامِرٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ؟ فَقَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ.فَهَذِهِ آثَارٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ هُوَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ، لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ(٩٣) فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ وَتَنَاسُبِ الْكَلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: "جُحْرُ ضَب خربٍ"، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ [الْإِنْسَانِ: ٢١] وَهَذَا سَائِغٌ ذَائِعٌ، فِي لُغَةِ الْعَرَبِ شَائِعٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمَا الْخُفَّانِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ، كَمَا وَرَدَتْ(٩٤) بِهِ السُّنَّةُ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْوَاجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَرْضًا، لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ(٩٥) الَّتِي سَنُورِدُهَا.وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَسْلِ الْخَفِيفِ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، حَيْثُ قَالَ: أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمَوَيْهِ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَة، سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَة يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَة الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً وَاحِدَةً، فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ(٩٦) فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم](٩٧) صَنَعَ مَا صنعتُ. وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ ".رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ آدَمَ، بِبَعْضِ مَعْنَاهُ.(٩٨)وَمَنْ أَوْجَبَ(٩٩) مِنَ الشِّيعَةِ مَسْحَهُمَا كَمَا يَمْسَحُ الْخُفَّ، فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ. وكذا من جوز مسحهما وَجَوَّزَ غَسْلَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا لِلْأَحَادِيثِ، وَأَوْجَبَ مَسْحَهُمَا لِلْآيَةِ، فَلَمْ يُحَقِّقْ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ دَلْك الرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ الْأَرْضَ وَالطِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ(١٠٠) دَلْكَهما لِيَذْهَبَ مَا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّر عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فَاعْتَقَدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُوبَ الْجَمْعِ بَيْنَ(١٠١) غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا، فَحَكَاهُ مَنْ حَكَاهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَسْتَشْكِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَعْذُورٌ(١٠٢) فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ؛ لِانْدِرَاجِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرجلُ مَا ذكرتهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ أَيْضًا فَإِذَا هُوَ يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ خَفْضًا عَلَى الْمَسْحِ وَهُوَ الدَّلْكُ(١٠٣) وَنَصْبًا عَلَى الْغَسْلِ، فَأَوْجَبَهُمَا أَخْذًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ.ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ:قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَمِيرَيِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ(١٠٤) فِي وُضُوئِهِ، إِمَّا مَرَّةً، وَإِمَّا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ.وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوء لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ".وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانة، عَنْ أَبِي بِشْر، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَك، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّف عَنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فأدرَكَنا وَقَدْ أرْهَقَتْنَا الصلاةُ، صلاةُ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "أسبِغوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".(١٠٥)وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(١٠٦) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".(١٠٧)وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيْح، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ(١٠٨) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ(١٠٩) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ أَبِي كَرْبٍ -أَوْ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي كَرْبٍ(١١٠) -قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ(١١١) -يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ".(١١٢)وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي كَرْبٍ(١١٣) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي رِجْل رَجُل مِنَّا مثْل الدِّرْهَمِ لَمْ يَغْسِلْهُ، فَقَالَ: "وَيْلٌ للعَقِبِ مِنَ النَّارِ".وَرَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عَنِ الأحْوص(١١٤) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، بِهِ نَحْوَهُ(١١٥) وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي كَرْبٍ(١١٦) عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ:حَدَّثَنَا(١١٧) عَلِيُّ(١١٨) بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ، لَمْ يُصِبْ أعْقابهم الماءُ، فَقَالَ: "وَيْلٌ للعَراقِيبِ مِنَ النَّارِ".(١١٩)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَف بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ عُتْبة، عَنْ يَحْيَى(١٢٠) بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَيْقيب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.(١٢١)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُطَرَّح بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ(١٢٢) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". قَالَ: فَمَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ شَرِيف وَلَا وَضِيع، إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقلب عُرْقوبيه يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا".(١٢٣)وَحَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -أَوْ عَنْ أَخِي أَبِي أُمَامَةَ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَبْصَرَ قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ(١٢٤) وَفِي عَقِب أَحَدِهِمْ -أَوْ: كَعْبِ أَحَدِهِمْ-مِثْلُ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ -أَوْ: مَوْضِعِ الظُّفُرِ-لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ، فَقَالَ: "وَيْلٌ للأعقاب من النَّارِ". قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى فِي عَقِبِهِ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ(١٢٥) الْمَاءُ أَعَادَ وُضُوءَهُ".(١٢٦)وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْض الرِّجْلَيْنِ مَسْحهما، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمَا لَمَا توَعّد عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرِّجْلِ، بَلْ يَجْرِي(١٢٧) فِيهِ مَا يَجْرِي(١٢٨) فِي مَسْحِ الْخُفِّ، وَهَكَذَا وَجْهُ(١٢٩) الدَّلَالَةِ عَلَى الشِّيعَةِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ(١٣٠) فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: "ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ".(١٣١)وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ(١٣٢) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: أَنَّهُ سَمِعَ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَدْ تَوَضَّأَ، وَتَرَكَ عَلَى قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ ".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ حَرْمَلَة بْنِ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْب بِهِ(١٣٣) وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: [وَ](١٣٤) لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَعْرُوفٍ، لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا ابْنُ وَهْبٍ.وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ(١٣٥) أَخْبَرْنَا يُونُسُ وَحُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ... بِمَعْنَى حَدِيثِ قَتَادَةَ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا بَقيةُ، حَدَّثَنِي بَحِير(١٣٦) بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَة قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ.وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ(١٣٧) وَزَادَ: "وَالصَّلَاةَ". وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَفِي حَدِيثِ حُمْران، عَنْ عُثْمَانَ، فِي صِفَةِ وَضَوْءِ النَّبِيِّ(١٣٨) ﷺ: أنه خلل بين أصابعه. وروى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيط بْنِ صَبرةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ: فَقَالَ: "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وخَلِّل بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا".(١٣٩)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي(١٤٠) حَدَّثَنَا عِكْرِمة بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ(١٤١) قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ عَبَسَةَ(١٤٢) قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ. قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقْرَبُ وُضُوءُهُ، ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَيَنْتَثِرُ(١٤٣) إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَاهُ مِنْ فَمِهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الْمَاءِ حِينَ يَنْتَثِرُ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ(١٤٤) اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا قَدَمَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرُو، انْظُرْ مَا تَقُولُ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ أَيُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ كُلَّهُ فِي مَقَامِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبْسة(١٤٥) يَا أَبَا أُمَامَةَ، لَقَدْ كَبُرَتْ سنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ(١٤٦) ﷺ [وَ](١٤٧) لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، لَقَدْ سَمِعْتُهُ [مِنْهُ](١٤٨) سَبْعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.(١٤٩)وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: "ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِالْغَسْلِ.وَهَكَذَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أُمِرْتُمْ.وَمِنْ هَاهُنَا يَتَّضِحُ لَكَ الْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَش عَلَى قَدَمَيْهِ الْمَاءَ وَهُمَا فِي النَّعْلَيْنِ فَدَلَّكَهُمَا. إِنَّمَا أَرَادَ غَسْلًا خَفِيفًا وَهُمَا فِي النَّعْلَيْنِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِيجَادِ الْغَسْلِ والرِجل فِي نَعْلِهَا، وَلَكِنْ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُتَعَمِّقِينَ وَالْمُتَنَطِّعِينَ مِنَ الْمُوَسْوِسِينَ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُبَاطةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ(١٥٠) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِأَنَّ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظَ رَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يكون في رجليه خفان، وعليهما نعلان.وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَة، حَدَّثَنِي يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّد وَعَبَّادِ بْنِ مُوسَى كِلَاهُمَا، عَنْ هُشَيْم، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطاء، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَى سُبَاطة قَوْمٌ فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ(١٥١) وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ(١٥٢) ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَوَضَّأَ كَذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ؛ إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ فَرَائِضُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ مُتَنَافِيَةً مُتَعَارِضَةً، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ الْأَمْرُ بِعُمُومِ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بِالنَّقْلِ(١٥٣) الْمُسْتَفِيضِ الْقَاطِعِ عُذْر مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ وَبَلَغَهُ.وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ آمِرًا بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ -كَمَا فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَكَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَمْلِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ عَلَيْهَا-تَوَهَّمَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، ثُمَّ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثة، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الجَزَري، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلي قَالَ: أَنَا أَسْلَمْتُ بَعْدَ نُزُولِ(١٥٤) الْمَائِدَةِ، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ بَعْدَمَا أَسْلَمْتُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.(١٥٥)وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّام قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. لَفْظُ مُسْلِمٍ.(١٥٦)وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَوْلًا مِنْهُ وَفِعْلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ"، وَمَا(١٥٧) يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ، مِنْ تَأْقِيتِ الْمَسْحِ أَوْ عَدَمِهِ أَوِ التَّفْصِيلِ فِيهِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ خَالَفَتِ الرَّوَافِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِلَا مُسْتَنَدٍ، بَلْ بِجَهْلٍ وَضَلَالٍ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، مَعَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى وَفْقِ ما دلت عليه الآية الْكَرِيمَةُ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.وَهَكَذَا خَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَفَ فِي الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ، فَعِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. قَالَ(١٥٨) الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ، وَهُمَا مُجْمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. هَذَا لَفْظُهُ. فَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، [أَنَّ](١٥٩) فِي كُلِّ قَدَمٍ كَعْبَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ(١٦٠) حُمْران عَنْ عُثْمَانَ؛ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.وَرَوَى الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِيِّ بْنِ الْحَارِثِ الْجَدَلِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ -ثَلَاثًا-وَاللَّهِ لتقيمُن صُفُوفَكُمْ أَوْ ليخالفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ". قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِق كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتِهِ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ، ومَنْكبِه بِمَنْكِبِهِ. لَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ.(١٦١)فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْزَقَ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي السَّاقِ، حَتَّى يُحَاذِيَ كَعْبَ الْآخَرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِل السَّاقِ وَالْقَدَمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرْنَا شَرِيكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ -يَعْنِي الْجَابِرَ-قَالَ: نَظَرْتُ فِي قَتْلَى أَصْحَابِ زَيْدٍ، فَوَجَدْتُ الْكَعْبَ فَوْقَ ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الشِّيعَةُ بَعْدَ قَتْلِهِمْ، تَنْكِيلًا بِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ تقدَّم الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ؛ لِئَلَّا يَطُولَ الْكَلَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هُنَاكَ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى هَاهُنَا حَدِيثًا خَاصًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ:حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ، وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَزَلَ، فثَنَى رَأْسَهُ فِي حِجْري رَاقِدًا، أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فلَكَزَني لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْت النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ، فَبى الموتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ أَوْجَعَنِي، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يوجَد، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ أسَيْد بْنُ الحُضَير لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، ما أنتم إلا بركة لهم.(١٦٢) وَقَوْلُهُ: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ أَيْ: فَلِهَذَا سَهَّلَ عَلَيْكُمْ ويسَّر وَلَمْ يعسِّر، بَلْ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَعِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بِكُمْ، وَجَعَلَهُ فِي حَقٍّ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ الْكَبِيِر".
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمَه عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّسْهِيلِ وَالسَّمَاحَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْحَثِّ عَلَى الدُّعَاءِ عَقِبَ الْوُضُوءِ، بِأَنْ يَجْعَلَ فَاعِلَهُ مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ الدَّاخِلِينَ فِي امْتِثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءه، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبلا عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ". قَالَ: قُلْتُ: مَا أَجُودُ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْهَا. فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ -أَوْ: فَيُسْبِغُ-الْوُضُوءَ، يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ". لَفْظُ مُسْلِمٍ.(١٦٣)وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ سُهَيل(١٦٤) بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا توَضّأ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ: الْمُؤْمِنُ-فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ: مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ-فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بِطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ: مَعَ آخِرِ قطْر الْمَاءِ-فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ: مَعَ آخِرِ قطْر الْمَاءِ-حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ".رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، بِهِ.(١٦٥)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ -أَوْ: ذِرَاعَيْهِ-إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْهُمَا، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رَأَسِهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رِجْلَيْهِ".(١٦٦)هَذَا لَفْظُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَوْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "وَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ(١٦٧) خَطَايَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ(١٦٨) خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَإِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ

الخميس، 21 يوليو 2022

من سورة ال عمران

تفسير اية رقم ٣١_٣٢ 
من سورة ال عمران 
﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ (٣١) قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (٣٢)﴾ [آل عمران ٣١-٣٢]

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ الْمُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ" وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ: يَحْصُلُ لَكُمْ فَوْقَ مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتِكُمْ إِيَّاهُ، وَهُوَ مَحَبَّتُهُ إِيَّاكُمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبّ، إِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ .وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنافِسي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ والْبُغْضُ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ قَالَ أَبُو زُرْعَة: عَبْدُ الْأَعْلَى هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ(١) .ثُمَّ قَالَ: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أَيْ: بِاتِّبَاعِكُمْ لِلرَّسُولِ ﷺ يَحْصُلُ لَكُمْ هَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ سِفَارَتِهِ.ثُمَّ قَالَ آمِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَيْ: خَالَفُوا عَنْ أَمْرِهِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي الطَّرِيقَةِ كُفْرٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، وَإِنِ ادَّعَى وَزَعَمَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ لِلَّهِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَرَسُولَ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ(٢) الَّذِي لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ -بَلِ الْمُرْسَلُونَ، بَلْ أُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ-فِي زَمَانِهِ لَمَا وَسِعَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَالدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] [إِنْ شَاءَ الله تعالى](٣) .

(١) تفسير ابن أبي حاتم (١/٢٠٢) ، ورواه أبو نعيم في الحلية (٨/٣٦٨) والحاكم في المستدرك (٢/٢٩١) من طريق عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي كثير به.
قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه عبد الأعلى بن أعين، قال الدارقطني: ليس بثقة".
وقال ابن حبان: "يروي عن يحيى بن أبي كثير ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال".
وقال العقيلي: "جاء بأحاديث منكرة ليس منها شيء محفوظ".
(٢) في جـ: "الإنس والجن".
(٣) زيادة من و.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة المائدة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١-٢ 
من سورة المائدة 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِیمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ غَیۡرَ مُحِلِّی ٱلصَّیۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ مَا یُرِیدُ (١) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰ⁠نِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ (٢)﴾ [المائدة ١-٢]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ[وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ](١)قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضر، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبان، عَنْ لَيْث، عَنْ شَهر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ(٢) بزِمَام العَضْباء ناقةِ رَسُولِ اللَّهِ(٣) ﷺ، إِذْ نَزَلَتْ(٤) عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وَكَادَتْ مِنْ ثِقْلِهَا تَدُقّ عَضُد الناقةَ(٥) .وَرَوَى ابْنُ مَرْدُويه مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ(٦) بنِ سُهَيْل، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهَا؛ أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِير مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فنزلت عَلَيْهِ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فاندَقَّ عُنُق الرَّاحِلَةِ مِنْ ثِقْلِهَا(٧) .وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي(٨) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا.تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(٩) وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْب، عَنْ حُيَيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ: سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ: " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " [سُورَةُ النَّصْرِ: ١] .وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ(١٠) نَحْوَ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ(١١) .وَقَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ(١٢) بْنُ نَصْرٍ قَالَ: قُرئ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْب، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْر قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ، تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ(١٣) فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا من حرام فحرموه. ثم قال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَزَادَ: وَسَأَلْتُهَا(١٤) عَنْ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتِ: الْقُرْآنُ. وَرَاوَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ(١٥) .
* * *قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُعَيْم بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مِسْعَر، حَدَّثَنِي مَعْن وعَوْف -أَوْ: أَحَدِهِمَا-أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١٦) فَقَالَ: اعْهَدْ إليَّ. فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فارْعِها سَمْعَك، فَإِنَّهُ خَيْر يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَر يَنْهَى عَنْهُ.وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -دُحيم-حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِذَا قَالَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ افْعَلُوا، فَالنَّبِيُّ ﷺ مِنْهُمْ.وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سنَان، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبيد(١٧) حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَة قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ: "يَا يها الْمَسَاكِينُ".فَأَمَّا(١٨) مَا رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغِ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -يَعْنِي: ابْنَ هِشَامٍ-عَنْ عِيسَى بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بُذَيْمَة، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إِلَّا أَنَّ عَلِيًّا سَيِّدُهَا وَشَرِيفُهَا وَأَمِيرُهَا، وَمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ إِلَّا قَدْ عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يعاتبْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. فَهُوَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ فِيهِ نَكَارَةٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ.قَالَ الْبُخَارِيُّ: عِيسَى بْنُ رَاشِدٍ هَذَا مَجْهُولٌ، وَخَبَرُهُ مُنْكَرٌ. قُلْتُ: وَعَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ -وَإِنْ كَانَ ثِقَةً-إِلَّا أَنَّهُ شِيعِيٌّ غالٍ، وَخَبَرُهُ فِي مِثْلِ هَذَا فِيهِ تُهمة فَلَا يُقْبَلُ. وَقَوْلُهُ: "وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيًّا" إِنَّمَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَر غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا عليٌّ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ(١٩) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ﴾ الْآيَةَ [سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ: ١٣] وَفِي كَوْنِ هَذَا عِتَابًا نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ كَانَ نَدْبًا لَا إِيجَابًا، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَرَ(٢٠) مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَهُ. وَقَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ: "إِنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ" فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ الَّتِي فِيهَا الْمُعَاتَبَةُ عَلَى أَخْذِ الفِداء عَمَّت جَمِيعَ مَنْ أَشَارَ بِأَخْذِهِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا عُمر بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعُلِمَ بِهَذَا، وَبِمَا تَقَدَّمَ ضَعفُ هَذَا الْأَثَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقَالَ(٢١) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْث، حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي كُتب لِعَمْرِو بْنِ حَزْم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْران، وَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، فِيهِ: هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فَكَتَبَ الْآيَاتِ مِنْهَا حَتَّى بَلَغَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(٢٢) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: هَذَا كتابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَنَا، الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْم، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقه أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ. فَكَتَبَ(٢٣) لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ عَهْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ"(٢٤) .قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي بِالْعُقُودِ: الْعُهُودَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ(٢٥) قَالَ: وَالْعُهُودُ مَا كَانُوا يَتَعَاهَدُونَ(٢٦) عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ يَعْنِي بِالْعُهُودِ: يَعْنِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَد فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَلَا(٢٧) تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٥] .وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ(٢٨) وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ [ﷺ](٢٩) وَالْكِتَابِ أَنْ يُوفُوا بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قَالَ: هِيَ سِتَّةٌ:(٣٠) عَهْدُ اللَّهِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ، وَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَعَقْدِ الْيَمِينِ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ خَمْسَةٌ مِنْهَا: حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ وَثُبُوتِهِ، فَيَقْتَضِي نَفْيَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَخَالَفَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "البَيِّعان بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفرَّقا"(٣١) وَفِي لفْظ لِلْبُخَارِيِّ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا"(٣٢) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُتَعَقِّبِ لِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ شَرْعًا، فَالْتِزَامُهُ مِنْ تَمَامِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ﴾ هِيَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَنِينِ إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِذَا ذُبِحَتْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مُجالد، عَنْ أَبِي الودَّاك جَبْرِ بْنِ نَوْف، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَنْحَرُ النَّاقَةَ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: "كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ(٣٣) .[وَ](٣٤) قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَتَّاب بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَدَّاحُ الْمَكِّيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ(٣٥) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ.وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ يَعْنِي: مِنْهَا. فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ، وتلاحقُه؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: إِلَّا مَا سَيُتْلَى(٣٦) عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ بعضها في بعض الأحوال.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ(٣٧) مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَنْعَامِ: مَا يَعُمُّ الْإِنْسِيَّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا يَعُمُّ الْوَحْشِيَّ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ، فَاسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسِيِّ مَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْوَحْشِيِّ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ [أَحْلَلْنَا لَكُمُ الْأَنْعَامَ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ لِمَنِ الْتَزَمَ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ وَهُوَ حَرَامٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ أَيْ: أَبَحْنَا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، أَيْ: كَمَا](٣٨) أَحْلَلْنَا(٣٩) الْأَنْعَامَ لَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَحَرِّمُوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِهَذَا وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ثُمَّ قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَالْهَدْيَ والبُدن مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ مَحَارِمُهُ [الَّتِي حَرَّمَهَا](٤٠) أَيْ: لَا تُحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ [تَعَالَى](٤١) ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِتَعْظِيمِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ(٤٢) مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ وَتَأْكِيدَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] ﴾(٤٣) الْآيَةَ. [التَّوْبَةِ: ٣٦] .وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدة، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادى وَشَعْبَانَ".وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ(٤٤) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يَعْنِي:(٤٥) لَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالًا فِيهِ. وَكَذَا قَالَ مُقَاتل بْنُ حَيَّان، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الجزَريُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ،(٤٦) وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ:٥] قَالُوا: وَالْمُرَادُ أَشْهَرُ التَّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةُ، [ ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ ](٤٧) قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَهْرًا حَرَامًا مِنْ غَيْرِهِ.وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ(٤٨) [رَحِمَهُ اللَّهُ](٤٩) الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَغَيْرِهَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ(٥٠) أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لو قلد عنقه أو ذِرَاعَيْهِ(٥١) بِلِحَاءِ(٥٢) جَمِيعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْقَتْلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ ذِمَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانٍ(٥٣) وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحْثٌ آخَرُ، لَهُ مَوْضِعٌ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا.[وَ](٥٤) قَوْلُهُ: ﴿وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ﴾ يَعْنِي: لَا تَتْرُكُوا الْإِهْدَاءَ إِلَى الْبَيْتِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْظِيمًا لِشَعَائِرِ اللَّهِ، وَلَا تَتْرُكُوا تَقْلِيدَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لِتَتَمَيَّزَ بِهِ عَمَّا عَدَاهَا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَجْتَنِبُهَا مَنْ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، وَتَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى هدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا حَج رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَاتَ بِذِي الحُلَيْفة، وَهُوَ وَادِي العَقيق، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ، وَكُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ اغْتَسَلَ وتَطيَّب وصلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَشْعَرَ هَدْيَه وقلَّدَه، وأهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَانَ هَدْيُهُ إِبِلًا كَثِيرَةً تنيفُ عَلَى السِّتِّينَ، مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الْحَجُّ:٣٢] .قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِعْظَامُهَا: اسْتِحْسَانُهَا وَاسْتِسْمَانُهَا.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ(٥٥)وَقَالَ مُقاتل بْنُ حَيَّان: ﴿وَلا الْقَلائِدَ﴾ فَلَا تَسْتَحِلُّوا(٥٦) وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ(٥٧) قلَّدوا أَنْفُسَهُمْ بالشَّعْر والوَبَر، وَتَقَلَّدَ مُشْرِكُو الْحَرَمِ مِنْ لَحاء شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَأْمَنُونَ بِهِ.رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّار، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّاد بْنُ العَوَّام، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُسِخَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَانِ: آيَةُ الْقَلَائِدِ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الْمَائِدَةِ:٤٢] .وَحَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَّانَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ، عَنِ ابْنِ عَوْن قَالَ: قُلْتُ لِلْحُسْنِ: نُسِخَ مِنَ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا.وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَأْمَنُونَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ قَطْعِ شَجَرِهِ. وَكَذَا قَالَ مُطرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ أَيْ: وَلَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالَ الْقَاصِدِينَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَكَذَا مَنْ قَصَدَهُ طَالِبًا فَضْلَ اللَّهِ وَرَاغِبًا فِي رِضْوَانِهِ، فَلَا تَصُدُّوهُ وَلَا تَمْنَعُوهُ وَلَا تُهَيِّجُوهُ.قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، ومُطَرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ(٥٨) بن عُبَيد بن عُمير، والربيع بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ، ومُقاتل بْنُ حَيَّان فِي قَوْلِهِ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: التِّجَارَةَ.وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٩٨]
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَرِضْوَانَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يترضَّون اللَّهَ بِحَجِّهِمْ.وَقَدْ ذَكَرَ عِكْرِمة، والسُّدِّي، وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الحُطم(٥٩) بْنِ هِنْدٍ الْبَكْرِيِّ، كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْح الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَمَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا(٦٠) فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ .وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ، وَإِنْ أمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَوِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا مَنْ قَصَدَهُ بِالْإِلْحَادِ فِيهِ وَالشِّرْكِ عِنْدَهُ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَهَذَا يُمْنَعُ كَمَا قَالَ [تَعَالَى](٦١) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ تِسْعٍ -لَمَّا أمَّر الصِّدِّيقَ عَلَى الْحَجِيجِ-علِيّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَرَاءَةٍ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِك، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيان(٦٢) .وَقَالَ [عَلِيُّ](٦٣) بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يَعْنِي مَنْ تَوَجَّهَ قِبَل الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا يَحُجَّ الْبَيْتَ أَوْ يَعْرِضُوا لَهُ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ(٦٤) لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٧] وَقَالَ [تَعَالَى] :(٦٥) ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٨] فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ قَالَ: مَنْسُوخٌ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقلَّد مِنَ الشَّجَرِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، وَإِذَا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعرٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فَأُمِرُوا أَلَّا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ، فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ: ﴿فَاقْتُلُوا(٦٦) الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٥] . .وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا الْقَلائِدَ﴾ يعني: إن تقلدوا قِلَادَةً مِنَ الْحَرَمِ فَأَمِّنُوهُ، قَالَ: وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تُعِيرُ مَنْ أَخَفَرَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ(٦٧) : ألَمْ تَقْتُلا الحرْجَين إِذْ أَعْوَرَا لَكُمْ ... يمرَّان الأيدي اللَّحاء المُضَفَّرا(٦٨)وَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أَيْ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَأَحْلَلْتُمْ مِنْهُ، فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنَ الصَّيْدِ. وَهَذَا أَمُرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى السَّبْر: أَنَّهُ يُرَدُّ الْحُكْمُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ، يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: "أَنْ صَدُّوكُمْ" بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ "أَنْ" وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، أَيْ: لَا يَحَمِّلَنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا [فِي](٦٩) حُكْمِ اللَّهِ فِيكُمْ(٧٠) فَتَقْتَصُّوا مِنْهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بَلِ احْكُمُوا بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَدْلِ فِي كُلِّ أَحَدٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [الْمَائِدَةِ: ٨] أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضِ أَقْوَامٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فِي كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ.وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا عاملتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ، وَالْعَدْلُ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَهْل بْنُ عُثْمَانَ(٧١) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: نَصُدُّ(٧٢) هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ(٧٣) .وَالشَّنَآنُ هُوَ: الْبُغْضُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ شنَأته أَشْنَؤُهُ شَنَآنًا، بِالتَّحْرِيكِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: جَمَزَان، ودَرَجَان ورَفَلان، مِنْ جَمَزَ، وَدَرَجَ، وَرَفَلَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسْقِطُ التَّحْرِيكَ فِي شَنَآنِ، فَيَقُولُ: شَنَّانِ. قَالَ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ(٧٤) :ومَا العيشُ إِلَّا مَا تُحبُّ وتَشْتَهي(٧٥) وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشنَّان وفَنَّدَا ...
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الْبَرُّ، وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ وَهُوَ التَّقْوَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التناصر على الباطل.وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْإِثْمُ: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَالْعُدْوَانُ: مُجَاوَزَةُ مَا حَدَّ اللَّهُ فِي دِينِكُمْ، وَمُجَاوَزَةُ مَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ(٧٦) .وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُه مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَحْجِزُهُ تَمْنَعُهُ(٧٧) فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ".انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْم بِهِ نَحْوَهُ(٧٨) وَأَخْرَجَاهُ(٧٩) مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمَ، فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ".وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّاب، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ(٨٠) قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"(٨١) .وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، [قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ](٨٢) أَنَّهُ قَالَ:"الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ(٨٣) وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ(٨٤) .وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو شَيْبَةَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ فُضَيْل بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ". ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الإسناد(٨٥) .قُلْتُ: وَلَهُ شَاهِدٌ(٨٦) فِي الصَّحِيحِ: "مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا"(٨٧) .وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِبْرِيقٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ عَبَّاسُ بْنُ يُونُسَ: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ نِمْرَان بْنَ مخُمر حَدَّثَهُ(٨٨) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ، فَقَدْ خَرَجَ من الإسلام"(٨٩) .

(١) زيادة من ر، أ.
(٢) في د: "لآخذة يوما".
(٣) في ر: "النبي".
(٤) في د: "إذ أنزلت".
(٥) المسند (٦/٤٥٥) وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٣) : "فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق".
(٦) في ر: "صباح".
(٧) ورواه ابن أبي شيبة في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في دلائل النبوة كما في الدر المنثور (٣/٣) .
(٨) في ر: "الختلي"، وفي أ: "الجبلي".
(٩) المسند (٢/١٧٦) وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٣) : "فيه ابن لهيعة، والأكثر على ضعفه وقد يحسن حديثه".
(١٠) في ر: "بإسناده نحوه".
(١١) سنن الترمذي برقم (٣٠٦٣) والمستدرك (٢/٣١١) .
(١٢) في أ: "محمد".
(١٣) في ر: "نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم".
(١٤) في ر، أ: "فسألتها".
(١٥) المستدرك (٢/٣١١) والمسند (٦/١٨٨) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٣٨) .
(١٦) زيادة من أ.
(١٧) في أ: "محمد بن سنان".
(١٨) في ر: "فإنه".
(١٩) في ر، أ: "صدقة".
(٢٠) في أ: "فلم يصدر".
(٢١) بداية تفسير الآيات من المخطوطة د.
(٢٢) تفسير الطبري (٩/٤٥٤) .
(٢٣) في د: "كتب".
(٢٤) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (٥/٤١٣) من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.
(٢٥) في د: "عليه".
(٢٦) في د، أ: "والعقود ما كانوا يتعاقدون".
(٢٧) في د، ر، أ: "ولا".
(٢٨) في د: "ما أحل الله وحرم"، وفي ر: "ما أحل وحرم".
(٢٩) زيادة من أ.
(٣٠) في ر، أ: "سنة".
(٣١) صحيح البخاري برقم (٢١٠٩) وصحيح مسلم برقم (١٥٣١) .
(٣٢) اللفظ في صحيح البخاري برقم (٢١١٢) وصحيح مسلم برقم (١٥٣١) .
(٣٣) سنن أبي داود برقم (٢٨٢٧) وسنن الترمذي برقم (١٤٧٦) وسنن ابن ماجة برقم (٣١٩٩) .
(٣٤) زيادة من ر.
(٣٥) سنن أبي داود برقم (٢٨٢٨) .
(٣٦) في د: "يتلى".
(٣٧) في د، ر، أ: "بالأنعام".
(٣٨) زيادة من د.
(٣٩) في د: "حللنا".
(٤٠) زيادة من د.
(٤١) زيادة من د.
(٤٢) في د: "ما نهى الله عنه فيه".
(٤٣) زيادة من د، أ.
(٤٤) في د: " وقال ابن أبي طلحة".
(٤٥) في د::أي".
(٤٦) في د: "الشهر الحرام".
(٤٧) زيادة من ر.
(٤٨) في د: "وحكى ابن جرير".
(٤٩) زيادة من أ.
(٥٠) في أ: "ولذلك".
(٥١) في د: ذراعيه أو عنقه".
(٥٢) في د، ر: "لحاء".
(٥٣) تفسير الطبري (٩/٤٧٩) .
(٥٤) زيادة من د.
(٥٥) سنن أبي داود برقم (٢٨٠٤) وسنن الترمذي برقم (١٤٩٨) وسنن النسائي (٧/٢١٦) وسنن ابن ماجة برقم (٣١٤٢) .
(٥٦) في د، ر، أ: "فلا تستحلوه".
(٥٧) في ر: "أشهر الحرم".
(٥٨) في أ: "وعبيد الله".
(٥٩) في د: "الحطيم".
(٦٠) في أ: "يعترضوا عليه".
(٦١) زيادة من ر، أ.
(٦٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣١٧٧) من حديث أبي بكر، رضي الله عنه.
(٦٣) زيادة من ر، أ.
(٦٤) في ر: " وما كان" وهو خطأ.
(٦٥) زيادة من ر.
(٦٦) في د، ر: "اقتلوا"، وهو خطأ.
(٦٧) وهو حذيفة بن أنس الهذلي، والبيت في تفسير الطبري (٩/٤٧٠) .
(٦٨) في ر: "للحاء المضفرا".
(٦٩) زيادة من د.
(٧٠) في د، أ: "فيهم".
(٧١) في أ: "سهل بن عفان".
(٧٢) في ر، أ: "قصد"
(٧٣) وذكره الواحدي في أسباب النزول ولم يسنده
(٧٤) هو الأحوص بن محمد الأنصاري، والبيت في تفسير الطبري (٩/٤٨٧) .
(٧٥) في د: "إلا ما يحب ويشتهي
(٧٦) تفسير الطبري (٩/٤٩٠)
(٧٧) في أ: "تمنعه من الظلم".
(٧٨) المسند (٣/٩٩) وصحيح البخاري برقم (٢٤٤٣) .
(٧٩) لم أهتد إليه من هذا الطريق في الصحيحين، ولعله خطأ، فقد راجعت تحفة الأشراف للمزي فلم أجده، وقد أخرجه البخاري في صحيحه برقم (٢٤٤٤) من طريق حميد، عن أنس به.
(٨٠) في د: "النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا".
(٨١) المسند (٥/٣٦٥) .
(٨٢) زيادة من ر، أ.
(٨٣) في أ: "لا يخالط الناس".
(٨٤) المسند (٢/٣٢) وسنن الترمذي برقم (٢٥٠٧) وسنن ابن ماجة برقم (٤٠٣٢) .
(٨٥) مسند البزار برقم (١٥٤) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (١/١٦٦) : "فيه عيسي بن المختار، تفرد عنه بكر بن عبد الرحمن".
(٨٦) في أ: "شواهد".
(٨٧) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٦٧٤) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٨٨) في ر، أ: "حدثه أن أوس بن شرحبيل أحدبني المجمع حدثه".
(٨٩) المعجم الكبير (١/١٩٧) وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم ضعيف.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 18 يوليو 2022

الرقية الشرعية

https://www.facebook.com/groups/277735422318861/permalink/5278373048921715/

من سورة الرحمن

تفسير اية رقم ٦٢_٧٨ 
من سورة الرحمن 
﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدۡهَاۤمَّتَانِ (٦٤) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِیهِمَا عَیۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِیهِمَا فَـٰكِهَةࣱ وَنَخۡلࣱ وَرُمَّانࣱ (٦٨) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِیهِنَّ خَیۡرَ ٰ⁠تٌ حِسَانࣱ (٧٠) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورࣱ مَّقۡصُورَ ٰ⁠تࣱ فِی ٱلۡخِیَامِ (٧٢) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمۡ یَطۡمِثۡهُنَّ إِنسࣱ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَاۤنࣱّ (٧٤) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرࣲ وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانࣲ (٧٦) فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ (٧٨)﴾ [الرحمن ٦٢-٧٨]

هَاتَانِ الْجَنَّتَانِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَنْزِلَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ .وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: "جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، فَالْأُولَيَانِ(١) لِلْمُقَرَّبِينَ، والأخريان(٢) لأصحاب اليمين".وَقَالَ أَبُو مُوسَى: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ مِنْ دُونِهِمَا فِي الدَّرَجِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ.وَالدَّلِيلُ عَلَى شَرَفِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ وجوه: أحدها: أنه نعت الأولين قَبْلَ هَاتَيْنِ، وَالتَّقْدِيمُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي شَرَفِ التَّقَدُّمِ(٣) وَعُلُوِّهِ عَلَى الثَّانِي.وَقَالَ هُنَاكَ: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ : وَهِيَ الْأَغْصَانُ أَوِ الْفُنُونُ فِي الْمَلَاذِّ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿مُدْهَامَّتَان﴾ أَيْ سَوْدَاوَانِ مِنْ شِدَّةِ الرِّيِّ.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مُدْهَامَّتَان﴾ قَدِ اسْوَدَّتَا مِنَ الْخُضْرَةِ، مِنْ شِدَّةِ الرِّيِّ مِنَ الْمَاءِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْل، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مُدْهَامَّتَان﴾ : قَالَ: خَضْرَاوَانِ. ورُوي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَمُجَاهِدٍ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ-وَعَطَاءٍ، وَعَطِيَّةَ العَوْفي، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ رَافِعٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، نَحْوُ ذَلِكَ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ﴿مُدْهَامَّتَان﴾ : مُمْتَلِئَتَانِ مِنَ الْخُضْرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَضْرَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ نَاعِمَتَانِ. وَلَا شَكَّ فِي نَضَارَةِ الْأَغْصَانِ عَلَى الْأَشْجَارِ الْمُشَبَّكَةِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ. وَقَالَ هُنَاكَ: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿نَضَّاخَتَان﴾ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيَّاضَتَانِ. وَالْجَرْيُ أَقْوَى مِنَ النَّضْخِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿نَضَّاخَتَان﴾ أَيْ مُمْتَلِئَتَانِ لَا تَنْقَطِعَانِ.وَقَالَ هُنَاكَ: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَعَمُّ وَأَكْثَرُ فِي الْأَفْرَادِ وَالتَّنْوِيعِ عَلَى فَاكِهَةٍ، وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تَعُمُّ؛ وَلِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ: ﴿وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، كَمَا قَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا.قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَفِي(٤) الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ". قَالُوا: أَفَيَأْكَلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: "نَعَمْ وَأَضْعَافٌ". قَالُوا: فَيَقْضُونَ الْحَوَائِجَ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنَّهُمْ يَعْرَقُونَ وَيَرْشَحُونَ، فَيُذْهِبُ اللَّهُ مَا فِي بطونهم من أذى"(٥) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الفَضْل بْنُ دُكَيْن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ سَعَفُهَا كُسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتهم، وَمِنْهَا حُلَلهم، وكَرَبُها ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَجُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَثَمَرُهَا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ عَجَمٌ.وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ -هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ-عَنْ أَبِي هَارُونَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "نَظَرْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فَإِذَا الرُّمَّانَةُ مِنْ رُمَّانِهَا كَمِثْلِ الْبَعِيرِ المُقْتَب"(٦) .ثُمَّ قَالَ: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: خَيْرَاتٌ جَمْعُ خَيِّرَةٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الْحَسَنَةُ الخُلُق الْحَسَنَةُ الْوَجْهِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ(٧) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي سَنُورِدُهُ فِي سُورَةِ "الْوَاقِعَةِ"(٨) : أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ يُغَنِّينَ: نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانُ، خُلِقْنَا لِأَزْوَاجٍ كِرَامٍ. وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ: "فِيهِنَّ خَيّرات"، بِالتَّشْدِيدِ ﴿حِسَانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ .ثُمَّ قَالَ: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ ، وَهُنَاكَ قَالَ: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّتِي قَدْ قَصَرَت طَرْفَهَا بِنَفْسِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ قُصرت، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مُخَدَّرَاتٍ.قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بزَّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ خَيرة، وَلِكُلِّ خَيرة خَيْمَةٌ، وَلِكُلِّ خَيْمَةٍ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، يَدْخُلُ عَلَيْهَا(٩) كُلَّ يَوْمٍ تُحْفَةٌ وَكَرَامَةٌ وَهَدِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، لَا مَرّاحات وَلَا طَمّاحات، وَلَا بَخِرَاتٍ وَلَا ذَفِرَاتٍ، حُورٌ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فِي الْخِيَامِ﴾ ، قَالَ الْبُخَارِيُّ:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ(١٠) مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أهلٌ مَا يَرون الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ".وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عِمْرَانَ، بِهِ(١١) . وَقَالَ: "ثَلَاثُونَ مِيلًا". وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عِمْرَانَ، بِهِ. وَلَفْظُهُ: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا ستون ميلا لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلٌ(١٢) يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا"(١٣) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنِي خُلَيْد العَصَري، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْخَيْمَةُ لُؤْلُؤَةٌ وَاحِدَةٌ، فِيهَا سَبْعُونَ بَابًا مِنْ دُرٍّ.وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ ، وَقَالَ: [فِي](١٤) خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ، وَفِي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة، أربع فَرَاسِخَ فِي أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ، عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِصْرَاعٍ مِنَ الذَّهَبِ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ دَرَّاجا أَبَا السَّمح حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: "أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ، كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ وَصَنْعَاءَ".وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، بِهِ(١٥) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ : [قَدْ](١٦) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي وَصْفِ الْأَوَائِلِ بِقَوْلِهِ: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّفْرَفُ: الْمَحَابِسُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمَا: هِيَ الْمَحَابِسُ. وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ(١٧) الرَّفْرَفُ عَلَى السَّرِيرِ، كَهَيْئَةِ الْمَحَابِسِ الْمُتَدَلِّي.وَقَالَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ يَعْنِي: الْوَسَائِدَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ قَالَ: الرَّفْرَفُ: رِيَاضُ الْجَنَّةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الْعَبْقَرِيُّ: الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ، يَعْنِي: جِيَادَهَا.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَبْقَرِيُّ: الدِّيبَاجُ.وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ فَقَالَ: هِيَ بُسُطُ أَهْلِ الْجَنَّةِ -لا أبا لكم- فَاطْلُبُوهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ [الْبَصْرِيِّ](١٨) رِوَايَةٌ: أَنَّهَا الْمَرَافِقُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْعَبْقَرِيُّ: أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ. وَسُئِلَ الْعَلَاءُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْعَبْقَرِيِّ، فَقَالَ: الْبُسُطُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَزْرَة(١٩) يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ: الْعَبْقَرِيُّ: مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعَبْقَرِيُّ: الطَّنَافِسُ المخْمَلة، إِلَى الرِّقَّةِ مَا هِيَ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ ثَوْبٍ مُوَشى عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يُعْمَلُ بِهَا الْوَشْيُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ يَسُرُّ(٢٠) مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيًّا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي عُمَرَ: "فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ"(٢١) .وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَصِفَةُ مَرَافِقِ أَهْلِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ هُنَاكَ: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ ، فَنَعَتَ بَطَائِنَ فُرُشِهِمْ وَسَكَتَ عَنْ ظَهَائِرِهَا(٢٢) ، اكْتِفَاءً بِمَا مَدَحَ بِهِ الْبَطَائِنَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَتَمَامُ الْخَاتِمَةِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ فَوَصَفَ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالنِّهَايَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الْإِيمَانِ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ فِي تَفْضِيلِ الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين(٢٣) ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْوَهَّابَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْأُولَيَيْنِ.ثُمَّ قَالَ: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ أَيْ: هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُكْرَمَ فَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ ذِي الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عُمَيْرِ(٢٤) بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِي الْعَذْرَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أجِدّوا اللَّهَ يَغْفِرْ لَكُمْ"(٢٥) .وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَذِي السُّلْطَانِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ(٢٦) غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ"(٢٧) .وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ الْجِيزِيُّ(٢٨) ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ(٢٩) .ثُمَّ قَالَ: غَلَطَ الْمُؤَمَّلُ فِيهِ، وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ الْمَقْدِسِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "أَلِظُّوا بِذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ(٣٠) .وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَلَظَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ: إِذَا لَزِمَهُ(٣١) .وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" أَيِ: الْزَمُوا. وَيُقَالُ: الْإِلْظَاظُ هُوَ الْإِلْحَاحُ.قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ مِنَ الْآخَرِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-وَهُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَاللُّزُومُ وَالْإِلْحَاحُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا سَلَّمَ لَا يَقْعُدُ -يَعْنِي: بَعْدَ الصَّلَاةِ-إِلَّا قَدْرَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"(٣٢) .آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَلِلَّهِ الحمد [والمنة](٣٣)

(١) في م: "فالأولتان".
(٢) في م: "والأخيرتان".
(٣) في أ: "التقديم".
(٤) في م: "في".
(٥) المنتخب برقم (٣٥) وفيه حصين بن عمر وهو متروك.
(٦) رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الإحياء (٦/٢٧٨٧) وابن عساكر في تاريخ دمشق كما في تهذيبه (٥/٤٦٢) من طريق أبي هارون العبدي به.
وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين كذبه بعض الأئمة.
(٧) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٣/٣٦٧) مطولا وفيه سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف.
(٨) عند تفسير الآيات ٣٥- ٣٨ من نفس السورة.
(٩) في م: "عليهم".
(١٠) في أ: "سبعون".
(١١) صحيح البخاري برقم (٤٨٧٩) ، (٣٢٤٣) .
(١٢) في م: "أهلون".
(١٣) صحيح مسلم برقم (٢٨٣٨) .
(١٤) زيادة من م.
(١٥) سنن الترمذي برقم (٢٥٦٢) وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حديث رشدين". ولم يتفرد به رشدين بل تابعه ابن وهب كما هنا، وفي إسناده دراج يروي عن أبي الهيثم مناكير.
(١٦) زيادة من م، أ.
(١٧) في م: "زيد".
(١٨) زيادة من م، أ.
(١٩) في أ: "حزيرة".
(٢٠) في م، أ: "نفيس".
(٢١) صحيح البخاري برقم (٣٦٨٢) وصحيح مسلم برقم (٢٣٩٣) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(٢٢) في م: "ظهارتها".
(٢٣) في م: "الأخيرتين".
(٢٤) في أ: "عمر".
(٢٥) المسند (٥/١٩٩) وقال الهيثمي في المجمع (١/٣١) : "وفي إسناده أبو العذراء وهو مجهول".
(٢٦) في م: "الذكر".
(٢٧) رواه أبو داود في السنن برقم (٤٨٤٣) والبيهقي في السنن الكبرى (٨/١٦٣) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(٢٨) في الأصل وبقية النسخ: "الحربي" والتصويب من أبي يعلى.
(٢٩) مسند أبي يعلى (٦/٤٤٥) وسنن الترمذي برقم (٣٥٢٢) .
وقال ابن طاهر: "وقد تابع المؤمل فيه روح بن عبادة وروح حافظ ثقة".
أخرجه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (٣/٣٩٦) من طريق روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن+
(٣٠) المسند (٤/١٧٧) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٥٦٣) .
(٣١) لسان العرب (٧/٤٥٩) .
(٣٢) صحيح مسلم برقم (٥٩٢) وسنن أبي داود برقم (١٥١٢) وسنن الترمذي برقم (٢٩٨) وسنن النسائي (٣/٦٩) وسنن ابن ماجه برقم (٩٢٤) .
(٣٣) زيادة من م، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))