الأربعاء، 27 يونيو 2012
قصة الأبرص والأقرع والأعمى
قصة الأبرص والأقرع والأعمى
المؤمن هو الذي يعرف ربه , ويعترف له بنعمه , ويؤدي شكرها في جميع الأحوال , في حال الشدة والرخاء , والضراء والسراء , وهذا هو مقتضى العبودية لله رب العالمين , ولذلك نعى الله في كتابه على طائفة من الناس لا يعرفون الله إلا عند نزول البلاء والشدة, فإذا كشفها عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد والاستكبار ,كأن لم يصابوا بشيء قبل ذلك , قال سبحانه :{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } (يونس:12).
والناس عند الشدائد والمصائب صنفان:
فمن الناس من إذا ابتلي بالفقر أو المرض أو أي نوع من أنواع البلاء , تمنى أن يزول عنه ما به , فإذا أعطاه الله ما تمناه , وبدل مرضه عافية , وفقره غنى , نسي البلاء الذي كان به , ولم يعترف لله بنعمه , فضلا عن أن يؤدي شكرها .
ومنهم من إذا زال عنه ضرُّه , وكُشِف كربُه , اعترف لله بالفضل والإنعام , وعمل جاهدا على شكر هذه النعمة وأداء حقها , وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى , فأراد الله أن يبتليهم , فبعث إليهم ملكا , فأتى الأبرص , فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن , وجلد حسن , ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس , قال : فمسحه فذهب عنه قَذَرُه , وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا , قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل , قال : فأعطي ناقة عُشَراء , فقال : بارك الله لك فيها , قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن , ويذهب عني هذا الذي قد قَذِرَني الناس , قال : فمسحه فذهب عنه , وأعطي شعرا حسنا , قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر , فأعطي بقرة حاملا , فقال : بارك الله لك فيها ,قال : فأتى الأعمى , فقال : أي شيء أحب إليك , قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس , قال : فمسحه فرد الله إليه بصره , قال : فأي المال أحب إليك , قال : الغنم , فأعطي شاة والدا , فأنتج هذان وولد هذا , قال : فكان لهذا واد من الإبل , ولهذا واد من البقر , ولهذا واد من الغنم , قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته , فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري , فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك , أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال , بعيرا أتَبَلَّغُ عليه في سفري , فقال : الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك , ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟! فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر , فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت , قال : وأتى الأقرع في صورته , فقال له مثل ما قال لهذا , ورد عليه مثل ما رد على هذا , فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت , قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته , فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري , فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك , أسألك بالذي رد عليك بصرك , شاة أتبلغ بها في سفري , فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري , فخذ ما شئت ودع ما شئت , فوالله لا أَجْهَدُكَ اليوم شيئا أخذته لله , فقال : أمسك مالك , فإنما ابتليتم , فقد رُضِيَ عنك , وسُخِطَ على صاحبيك ).
هذه قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل , أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد الله عز وجل أن يختبرهم , ليظهر الشاكر من الكافر , فأرسل لهم مَلَكـًا ، فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه , فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يعطى لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ، فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملاً، ودعا له الملك بالبركة , ثم جاء إلى الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه , فمسحه فزال عنه, وأعطي شعرا حسنا ، وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملاً ، ودعا الملك له بالبركة , ثم جاء الأعمى , فسأله كما سأل صاحبيه , فتمنى أن يُرَدَّ عليه بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملاً .
ثم مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديـًا من الصنف الذي أخذه ، فالأول يملك واديـًا من الإبل ، والثاني يملك واديـًا من البقر ، والثالث يملك واديـًا من الغنم , وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة فبعض الناس قد يصبر على الشدة ولكنه لا يعرف حق النعمة , مع أن الكل بلاء وفتنة , قال عز وجل { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } الأنبياء (35 ). فعاد إليهم الملك ، وجاء كل واحد منهم في صورته التي كان عليها ،ليذكر نعمة الله عليه, فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص , انقطعت به السبل وأسباب الرزق , وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه بعيرًا يواصل به سيره في سفره , فأنكر الرجل النعمة , وبخل بالمال ، واعتذر بأن الحقوق كثيرة ، فذكره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال , فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى, وأنه ورث هذا المال كابرا عن كابر، فدعا عليه المَلَك إن كان كاذبـًا أن يصير إلى الحال التي كان عليها , ثم جاء الأقرع في صورته , وقال له مثل ما قال للأول , وكان حاله كصاحبه في الجحود والإنكار , أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ، ونجح في الامتحان , وأقر بنعمة الله عليه , من الإبصار بعد العمى , و الغنى بعد الفقر , ولم يعط السائل ما سأله فقط , بل ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود وهو ابتلاء الثلاثة وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .
فهؤلاء الثلاثة يمثلون أصناف الناس , الشاكرون لأنعم الله , والكافرون بها ، وهو يدل على أن الله لايزال يبتلي العباد بالسراء والضراء كما ابتلى هؤلاء الثلاثة , ليتبين الشاكر من الكافر , وأن النعم إنما تدوم بالشكر , وهو الاعتراف بها للمنعم , والتحدث بها بين الناس , وتصريفها في مرضاته , فبهذه الأمور تحفظ النعم من الزوال .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئيسية
أفضل مشاهدة للشاشة 600*800
قصة الثلاثة الذين آواهم الغار
قصة الثلاثة الذين آواهم الغار
قصة الأبرص والأقرع والأعمى التي تحدثنا عنها في موضوع سابق , تمثل نموذجاً لصنف من الناس عرف الله في حال الشدة والبلاء ولم يعرفه في حال الرخاء , وفي قصة أخرى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا آخر من الناس , على العكس من ذلك , عرفوا الله عز وجل عند النعمة والعافية , فعملوا بطاعة الله , وادخروا أعمالاً صالحة لتكون ذخرا لهم عند الحاجة إليها , فلما نزلت بهم الشدة والضر ,عرف الله لهم ذلك , فأنجاهم , وكشف ما بهم , بما سبق لهم من الخير والفضل والإحسان.
والقصة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر , فمالوا إلى غار في الجبل , فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل , فأطبقت عليهم , فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة , فادعوا الله بها لعله يفرجها , فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران , ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم , فإذا رحت عليهم فحلبت , بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي , وإنه ناء بي الشجر , فما أتيت حتى أمسيت , فوجدتهما قد ناما , فحلبت كما كنت أحلب , فجئت بالحِلاب , فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما , وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما , والصبية يتضاغون عند قدمي , فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا فرجة نرى منها السماء , ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء , وقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء , فطلبت إليها نفسها , فأبت حتى آتيها بمائة دينار , فسعيت حتى جمعت مائة دينار , فلقيتها بها , فلما قعدت بين رجليها قالت : يا عبد الله , اتق الله ولا تفتح الخاتم , فقمت عنها , اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا منها , ففرج لهم فرجة , وقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ , فلما قضى عمله قال : أعطني حقي , فعرضت عليه حقه , فتركه ورغب عنه , فلم أزل أزرعه , حتى جمعت منه بقرا وراعيها , فجاءني فقال : اتق الله ولا تظلمني , وأعطني حقي , فقلت : اذهب إلى ذلك البقر وراعيها , فقال : اتق الله ولا تهزأ بي , فقلت : إني لا أهزأ بك , فخذ ذلك البقر وراعيها , فأخذه فانطلق بها , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج ما بقي , ففرج الله عنهم) .
هذا الحديث يبين قصة ثلاثة رجال , خرجوا من ديارهم , وابتعدوا عنها , وبينما هم كذلك إذ نزل مطر غزير, فبحثوا عن مكان يحتمون فيه, فلم يجدوا إلا غارا في جبل فدخلوا فيه ، وكانت الأمطار من الغزارة بحيث جرفت السيول الصخور الكبيرة من أعلى الجبل ، فانحدرت صخرة من تلك الصخور حتى سدت عليهم باب الغار، فانقطعت بهم السبل , وأغلقت في وجوههم كل الأبواب والوسائل المادية , فهم لا يستطيعون تحريك هذه الصخرة فضلا عن دفعها وإزالتها , ولا يوجد سبيل إلى إيصال خبرهم إلى قومهم ، وحتى لو بحثوا عنهم فلن يصلوا إليهم ، فقد أزالت الأمطار والسيول آثار أقدامهم.
هنا يعلم العبد اضطرارا أنه لا يستطيع أن ينجيه مما هو فيه إلا الله عز وجل , الذي أحاط بكل شيء علما , والقادر على كل شيء , ولا يعجزه شيء , فهو الذي يعلم حاله , ويرى مكانه , ويسمع كلامه .
ولما وصلوا إلى هذه الحال من الاضطرار , أشار أحدهم على أصحابه أن يتوسل كل واحد منهم إلى ربه بأرجى عمل صالح عمله , وقصد فيه وجه الله , فتوسل الأول ببره بوالديه حال كبرهما وضعفهما , وأنه بلغ به بره بهما أنه كان يعمل في رعي المواشي , وكان إذا عاد إلى منزله بعد الفراغ من الرعي , يحلب مواشيه , فيبدأ بوالديه , فيسقيهما قبل أهله وأولاده الصغار , وفي يوم من الأيام , ابتعد في طلب المرعى , فلم يرجع إلى المنزل إلا بعد أن دخل المساء , وجاء بالحليب كعادته , فوجد والديه قد ناما , فكره أن يوقظهما من نومهما , وكره أن يسقي الصغار قبلهما , فبقي طوال الليل على هذه الحال, ممسكا بالإناء في يده , ينتظر أن يستيقظا , وأولاده يبكون عند رجليه , يريدون طعامهم, حتى طلع الفجر.
وتوسل الثاني بخوفه من الله , وعفته عن الحرام والفاحشة , مع قدرته عليها , وتيسر أسبابها , فذكر أنه كانت له ابنة عم يحبها حبا شديدا , فراودها عن نفسها مرارا , ولكنها كانت تأبى , حتى أصابتها حاجة ماسة في سنة من السنين , فاضطرت إلى أن توافقه على طلبه , على أن يدفع لها مبلغا من المال , تدفع به تلك الحاجة التي ألمت بها , فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته , تحرك في قلبها داعي الإيمان والخوف من الله , فذكرته بالله في هذا الموطن , فقام عنها خائفا وجلا , وترك المال الذي أعطاها.
وتوسل الثالث بأمانته وحفظه لحقوق الآخرين , فذكر أنه استأجر أجيرا ليعمل له عملا من الأعمال, وكانت أجرته شيئا من الأرز , فلما قضى الأجير عمله عرض عليه الرجل أجره , فتركه وزهد فيه , وبالرغم من أن ذمة الرجل قد برئت بذلك , إلا أنه حفظ له ماله وثمره ونماه , حتى أصبح مالا كثيرا , جمع منه بقرا مع راعيها , فجاءه الأجير بعد مدة طويلة , يطلب منه أجره الذي تركه , فأعطاه كل ما جمعه له من المال.
وكان كلما ذكر واحد منهم عمله انفرجت الصخرة قليلا ,حتى أتم الثالث دعاءه , فانفرجت الصخرة بالكلية وخرجوا يمشون.
إن هذه القصة تبين للمسلم طريق الخلاص , عندما تحيط به الكروب ، وتنزل به الملمات والخطوب , وينقطع حبل الرجاء من المخلوقين ، وتستنفد كل الوسائل والأسباب المادية, فإن هناك الباب الذي لا ينقطع منه الرجاء ، وهو باب السماء , والالتجاء إلى الله بالدعاء, فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء , فتبارك الله رب العالمين .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئيسية
أفضل مشاهدة للشاشة 600*800
قصـة الذي استلف ألف دينار
<قصـة الذي استلف ألف دينار
ما أحوج الإنسان في زمن طغت فيه المادة , وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله , إلى أن يجدد في نفسه قضية الثقة بالله , والاعتماد عليه في قضاء الحوائج , وتفريج الكروب , فقد يتعلق العبد بالأسباب , ويركن إليها , وينسى مسبب الأسباب الذي بيده مقاليد الأمور , وخزائن السماوات والأرض , ولذلك نجد أن الله عز وجل يبين في كثير من المواضع في كتابه هذه القضية , كما في قوله تعالى : {وكفى بالله شهيدا} (الفتح 28) , وقوله : {وكفى بالله وكيلا } (الأحزاب 3) , وقوله : { أليس الله بكاف عبده } (الزمر 36) , كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس , وعدم نسيانه في زحمة الحياة , وفي السنة قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجلين من الأمم السابقة , ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى .
والقصة رواها البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل , سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف دينار , فقال : ائتني بالشهداء أُشْهِدُهُم , فقال : كفى بالله شهيدا , قال : فأتني بالكفيل , قال : كفى بالله كفيلا , قال : صدقت , فدفعها إليه إلى أجل مسمى , فخرج في البحر , فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يركبها يقْدَمُ عليه للأجل الذي أجله , فلم يجد مركبا , فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار , وصحيفةً منه إلى صاحبه , ثم زجَّجَ موضعها , ثم أتى بها إلى البحر , فقال : اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار , فسألني كفيلا , فقلت : كفى بالله كفيلا , فرضي بك , وسألني شهيدا , فقلت : كفى بالله شهيدا , فرضي بك , وأَني جَهَدتُ أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له , فلم أقدِر , وإني أستودِعُكَها , فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه, ثم انصرف , وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده , فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي فيها المال , فأخذها لأهله حطبا, فلما نشرها , وجد المال والصحيفة , ثم قَدِم الذي كان أسلفه , فأتى بالألف دينار , فقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه , قال : هل كنت بعثت إلي بشيء , قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه , قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة , فانْصَرِفْ بالألف الدينار راشدا )
هذه قصة رجلين صالحين من بني إسرائيل , كانا يسكنان بلدا واحدا على ساحل البحر , فأراد أحدهما أن يسافر للتجارة , واحتاج إلى مبلغ من المال , فسأل الآخر أن يقرضه ألف دينار , على أن يسددها له في موعد محدد , فطلب منه الرجل إحضار شهود على هذا الدين , فقال له : كفى بالله شهيدا , فرضي بشهادة الله , ثم طلب منه إحضار كفيل يضمن له ماله في حال عجزه عن السداد , فقال له : كفى بالله كفيلا , فرضي بكفالة الله, مما يدل على إيمان صاحب الدين , وثقته بالله عز وجل , ثم سافر المدين لحاجته , ولما اقترب موعد السداد , أراد أن يرجع إلى بلده , ليقضي الدين في الموعد المحدد , ولكنه لم يجد سفينة تحمله إلى بلده , فتذكر وعده الذي وعده , وشهادةَ الله وكفالتَه لهذا الدين , ففكر في طريقة يوصل بها المال في موعده , فما كان منه إلا أن أخذ خشبة ثم حفرها , وحشى فيها الألف الدينار, وأرفق معها رسالة يبين فيها ما حصل له , ثم سوى موضع الحفرة , وأحكم إغلاقها , ورمى بها في عرض البحر , وهو واثق بالله , متوكل عليه , مطمئن أنه استودعها من لا تضيع عنده الودائع , ثم انصرف يبحث عن سفينة يرجع بها إلى بلده , وأما صاحب الدين , فقد خرج إلى شاطئ البحر في الموعد المحدد , ينتظر سفينة يقدُم فيها الرجل أو رسولا عنه يوصل إليه ماله , فلم يجد أحدا , ووجد خشبة قذفت بها الأمواج إلى الشاطئ , فأخذها لينتفع بها أهله في الحطب , ولما قطعها بالمنشار وجد المال الذي أرسله المدين له والرسالة المرفقة , ولما تيسرت للمدين العودة إلى بلده ,جاء بسرعة إلى صاحب الدين , ومعه ألف دينار أخرى , خوفا منه أن تكون الألف الأولى لم تصل إليه , فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد , فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله , قد أدى عنه دينه في موعده المحدد .
إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه , وكفايته لعبده إذا توكل عليه وفوض الأمر إليه , وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات , فالذي يجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام , وفي جميع الأحوال , والله عز وجل عند ظن العبد به , فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع , وإن ظن به غير ذلك فقد ظن بربه ظن السوء .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئ
قصة الذي قتل مائة نفس
قصة الذي قتل مائة نفس
يحيط بابن آدم أعداء كثيرون من شياطين الإنس والجن, والنفس الأمارة بالسوء, وهؤلاء الأعداء يحسنون القبيح , ويقبحون الحسن ، ويدعون الإنسان إلى الشهوات , ويقودونه إلى مهاوي الردى, لينحدر في موبقات الذنوب والمعاصي .
ومع وقوع المعصية من ابن آدم فقد يصاحبه ضيق وحرج , وشعور بالذنب والخطيئة, فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل, ويدخل في دائرة اليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, ولكن الله العليم الحكيم , الرؤوف الرحيم ، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير, فتح لعباده أبواب التوبة, وجعل فيها ملاذاً مكيناً, وملجأ حصيناً، يَلِجُه المذنب معترفاً بذنبه, مؤملاً في ربه, نادماً على فعله, غير مصرٍ على خطيئته، فيكفر الله عنه سيئاته, ويرفع من درجاته .
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته , والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا , فسأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على راهب , فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا , فهل له من توبة , فقال : لا , فقتله فكمل به مائة , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل عالم , فقال : إنه قتل مائة نفس , فهل له من توبة, فقال : نعم , ومن يحول بينه وبين التوبة , انطلق إلى أرض كذا وكذا , فإن بها أناسا يعبدون الله , فاعبد الله معهم , ولا ترجع إلى أرضك , فإنها أرض سوء , فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب , فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله , وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط , فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي , فجعلوه بينهم , فقال : قيسوا ما بين الأرضين , فإلى أيتهما كان أدنى فهو له , فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد , فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ).
هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات , حتى قتل مائة نفس , وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق , ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال عنده من الرغبة في عفو الله ومغفرته ,ما دعاه إلى أن يبحث عمن يفتيه في أمره , ويفتح له أبواب الأمل , ولم يسأل عن أي عالم , بل سأل عن أعلم أهل الأرض , فدلوه على رجل راهب كثير العبادة قليل العلم , فأخبره بما كان منه , فاستعظم الراهب ذنبه , وقنَّطه من رحمة الله , وازداد الرجل غيّاً إلى غيِّه عندما أخبره أن التوبة محجوبة عنه , فقتله ليتم به المائة .
وبعد قتله للراهب لم ييأس , ولم يقتنع بما قاله له , فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل , وكان عالما بالفعل , فسأله القاتل ما إذا كان يمكن أن تكون له توبة بعد كل الذي فعله , فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة , وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أوسؤال , فباب التوبة مفتوح , والله عز وجل لا يتعاظمه ذنب , ورحمته وسعت كل شيء , وكان هذا العالم مربيا حكيما , فلم يكتف بإخباره بأن له توبة , بل دله على الطريق الموصل إليها , وهو تغيير البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها , ومفارقة الرفقة السيئة التي تعينه على الفساد, وتزين له الشر , فأمره بأن يترك أرض السوء , ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى , وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة , وخرج قاصدا تلك الأرض , ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله , فابتعد بصدره جهة الأرض الطيبة مما يدل على صدقه في التوبة حتى وهو في النزع الأخير , , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ,كل منهم يريد أن يقبض روحه , فقالت ملائكة العذاب إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا أبدا , وقالت ملائكة الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله , فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان , فأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين , الأرض التي جاء منها , والأرض التي هاجر إليها , فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب , وأرض الشر والفساد أن تتباعد , فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر , فتولت أمره ملائكة الرحمة , وغفر الله له ذنوبه العظيمة كلها .
إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص , وتبين سعة رحمة الله , وقبوله لتوبة التائبين, مهما عظمت ذنوبهم وخطاياهم , إذا صدق الإنسان في طلب التوبة , وسلك الطرق والوسائل التي تعينه عليها , ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله , فقد ظن بربه ظن السوء, فعلى العبد أن لا ييأس من رحمة الله , وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب , فكذلك القنوط من رحمة الله , قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (يوسف: 87) .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئيسية
أفضل مشاهدة للشاشة 600*800
قصة جريج العابد
قصة جريج العابد
كان في الأمم السابقة أولياء صالحون , وعباد زاهدون , وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل , وأظهر على أيديهم الكرامات , بعد أن تربص به المفسدون , وحاولوا إيقاعه في الفاحشة , ثم تشويه سمعته بالباطل , وهكذا أهل الفجور في كل زمان ومكان , لا يهنأ لهم بال , ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم , والقصة أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة , عيسى ابن مريم , وصاحب جريج , وكان جريج رجلا عابدا , فاتخذ صومعة فكان فيها, فأتته أمُّه وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : أي رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته , وكانت امرأة بغي يُتَمثَّلُ بحسنها , فقالت : إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها, فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته , فأمكنته من نفسها , فوقع عليها , فحملت , فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فاستنزلوه , وهدموا صومعته , وجعلوا يضربونه , فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين الصبي , فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي , فصلى , فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه , وقال : يا غلام , من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , قال : فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به, وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب , قال : لا , أعيدوها من طين كما كانت , ففعلوا ) .
كان جريج في أول أمره تاجراً , وكان يخسر مرة ويربح أخرى , فقال : ما في هذه التجارة من خير , لألتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة , فانقطع للعبادة والزهد , واعتزل الناس , واتخذ صومعة يترهَّب فيها , وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين , فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها , فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي , فنادته , فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته , فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه , ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث , فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول , فاستمر في صلاته ولم يجبها , فغضبت غضبا شديداً , ودعت عليه أن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات , ولو دعت عليه أن يفتن لفتن - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لهذا الحديث - , فاستجاب الله دعاء الأم , وهيأ أسبابه , وعرضه للبلاء .
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده , فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها , فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته , فلما تعرضت له لم يأبه بها , وأبى أن يكلمها , ولم يعرها أي اهتمام , فازدادت حنقا وغيظا , حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد , فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته , ودبرت له مكيدة عظيمة , فرأت راعياً يأوي إلى صومعة جريج , فباتت معه , ومكنته من نفسها , فزنى بها , وحملت منه في تلك الليلة , فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج , فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة , فخرجوا إليه , وأمروه بأن ينزل من صومعته , وهو مستمر في صلاته وتعبده , فبدءوا بهدم الصومعة بالفؤوس , فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم , فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق , ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه , أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي , وساقوه معهم , وبينما هم في الطريق , إذ مروا به مروا به قريبا من بيوت الزانيات , فخرجن ينظرن إليه , فلما رآهن تبسم , ثم أمر بإحضار الصبي , فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه , ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي , فطعنه في بطنه بإصبعه , وسأله والناس ينظرون , فقال له: من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي بقدرته , وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه , فقال : أبي فلان الراعي , فعرف الناس أنهم قد أخطئوا في حق هذا الرجل الصالح , وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به , وأرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه , فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب , فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت , ثم سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به من عند بيوت الزانيات , فقال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي .
إن قصة جريج مليئة بالعبر والعظات , فهي تبين لنا خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما , وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان , فكل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها هذا العبد الصالح , كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه , ومن فوائد القصة ضرورة أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد , والصلاة هي خير ما يُفْزع إليه عند الكرب , ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة , وأن الله ينجي العبد ويجعل له فرجاً ومخرجاً , بصلاحه وتقواه كما أنجى جريجا وبرأه مما نسب إليه .
ومن الفوائد التي لها علاقة بالواقع , أن الماضين كانوا يعتبرون مجرد النظر إلى وجوه المومسات نوعاً من البلاء والعقوبة , ولهذا دعت أم جريج على ابنها بتلك العقوبة , فكيف بحالنا في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم انفتاحا شديدا , عبر وسائل الاتصال الحديثة , وعرضت المومسات على الناس صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وعبر شبكة الإنترنت , ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر الحرام , فضلا عن مقارفته وارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا ظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه , إذا صبر وأحسن الظن بالله, فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء , نسأل الله السلامة من الفتن وأن يثبتنا عند البلاء .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئيسية
أفضل مشاهدة للشاشة 600*800
قصة نبي الله يوشع
قصة نبي الله يوشع
شرع الله عز وجل الجهاد والقتال في سبيله لمقاصد عظيمة , وغايات نبيلة , من إعزاز الدين , وتعبيد الناس لله رب العالمين , وإزالة الحواجز والقيود التي تحول بين الناس وبين الدعوة وقيام الحجة , ليهلك من هلك عن بينة , ويحيا من حي عن بينة , إلى غير ذلك من المقاصد , والجهاد عبادة كغيرها من العبادات , تحتاج لكي تؤتي أكلها , ويجني العبد ثمارها ألا يقدم عليها إلا وهو في حالة من التهيؤ النفسي , والتفرغ القلبي من الشواغل والملهيات التي تحول بينه وبين أداء هذه العبادة وتحقيق مقاصدها على الوجه الأكمل , وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة نبي من الأنبياء خرج للجهاد والغزو , والقصة أخرجها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غزا نبي من الأنبياء , فقال لقومه : لا يتبعْني رجل ملك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها , ولما يبنِ بها , ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها , ولا أحد اشترى غنماً أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها , فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك , فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور , اللهم احبسها علينا , فحُبِسَتْ حتى فتح الله عليه, فجمع الغنائم , فجاءت - يعني النار- لتأكلها فلم تطْعَمْها , فقال : إن فيكم غُلولا, فليبايعني من كل قبيلة رجل , فلَزِقَتْ يد رجل بيده , فقال : فيكم الغُلول , فليُبَايِعْني قبيلتك , فلَزِقَتْ يد رجلين أو ثلاثةٍ بيده , فقال :فيكم الغُلُول , فجاءوا برأسٍ مثل رأس بقرة من الذهب , فوضعوها فجاءت النار فأكلتها , ثم أحلَّ الله لنا الغنائم , رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)
هذه قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل , وهو نبي الله يوشع بن نون , الذي صحب موسى عليه السلام في حياته , وسار معه إلى الخضر , في القصة المعروفة في سورة الكهف , وبعد وفاة موسى عليه السلام أوحى الله إلى يوشع بن نون , واستخلفه على بني إسرائيل , وفتح على يده الأرض المقدسة .
وفي يوم من الأيام خرج هذا النبي غازياً لفتح إحدى القرى , فأراد ألا يخرج معه إلا من تفرغ من الشواغل , ولم يتعلق بأمر من أمور الدنيا , التي تعيق عن الجهاد والتضحية في سبيل الله , فأمر أن لا يتبعه في تلك الغزوة رجل عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها , ولا رجل مشغول ببناء لم يكمله , ولا رجل اشترى غنما أو نوقا حوامل وهو ينتظر أن تلد , فإن الذي انشغل بهذه الأمور وتعلق قلبه بها , ليس عنده استعداد لأن يثبت في أرض المعركة أو يجالد الأعداء , بل ربما كان سبباً للفشل والهزيمة .
فخرج متوجها نحو هذه القرية , فدنا منها وقت صلاة العصر أو قريبا منه , فلما رأى أن الوقت لا يتسع للقتال , وأن الليل قد يدخل عليه ولم ينه مهمته , خاطب الشمس قائلا : إنك مأمورة وأنا مأمور , ثم دعا الله عز وجل أن يحبسها عليهم , فتأخر غروبها حتى فتح الله عليهم .
وقد كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلنا , فكانت تجمع كلها في نهاية المعركة في مكان واحد , ثم تنزل نار من السماء , فتأكلها جميعا , وهي علامة قبول الله لتلك الغنائم , أما إذا لم تكن مقبولة فإن النار لا تأكلها , فجمعت غنائم تلك الغزوة , وجاءت النار فلم تأكلها , فعرف نبي الله يوشع أن هنالك غلولا , فأراد أن يعرف الغالَّ , فطلب أن يبايعه من كل قبيلة رجل , فلصقت يده بيد رجل من القبيلة التي فيها الغلول , فعرف أن الغالِّين هم من هذه القبيلة , وطلب أن يبايعه كل فرد من أفرادها على حدة , فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة هم أصحاب الغلول , فأمرهم بإحضار ما أخذوه , فجاءوا بقطعة كبيرة من الذهب على شكل رأس بقرة , فلما وضعت مع الغنائم جاءت النار فأكلتها .
وقد منَّ الله عز وجل على هذه الأمة ورحمها , لما رأى ضعفها وعجزها , فأحل لها الغنائم التي كانت محرمة على من قبلها من الأمم , وستر عنها أمر الغلول , وفضيحة عدم القبول , وهو من خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام .
فهذه القصة تدل على قدرة الله تعالى , وتصرفه في هذا الكون , وتأييده لرسله وإعانته لهم على القيام بما أوكل إليهم من مهام , ومن خلالها يتبين لنا أن المهمات الكبرى , التى يرتبط بها مصير الأمة وعزها ونصرها , ينبغي ألا تفوَّض إلا لحازم فارغِ القلب لها , لأن المتعلق بأمور الدنيا , وشؤون الحياة والمعاش , ربما ضعف عزمه عن المواجهة والإقدام , والقلب إذا تفرق ضعُف فعل الجوارح , وإذا اجتمع قوي , نسأل الله أن يوفقنا لخدمة دينه وإعلاء كلمته , إنه جواد كريم .
©جميع حقوق النشر محفوظة لاذاعة القرآن الكريم
الصفحة الرئيسية
أفضل مشاهدة للشاشة 600*800
اصحاب الجنة
اصحاب الجنة
(934 مجموع الكلمات في هذا النص)
قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ قال ابن عباس: هم كفار قريش. فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت واستحقت أن تجد؛ وهو الصرام، ولهذا قال: إِذْ أَقْسَمُوا فيما بينهم ليصرمنها أي؛ ليجدنها، وهو الاستغلال مصبحين أي؛ وقت الصبح، حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئا، فحلفوا على ذلك ولم يستثنوا في يمينهم، فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي أحرقتها؛ وهي السفعة التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئا ينتفع به ولهذا قال فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي؛ كالليل الأسود المنصرم من الضياء وهذه معاملة بنقيض المقصود فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أي؛ فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين: أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ أي؛ باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أي؛ يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين: لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي؛ اتفقوا على هذا واشتوروا عليه وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ أي؛ انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه مصممين مصرين على هذه النية الفاسدة. وقال عكرمة والشعبي: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أي؛ غضب على المساكين. وأبعد السدي في قوله؛ أن اسم حرثهم حرد فَلَمَّا رَأَوْهَا أي؛ وصلوا إليها، ونظروا ما حل بها، وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة والحسن والبهجة، فانقلبت بسبب النية الفاسدة، فعند ذلك قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي؛ قد تهنا عنها وسلكنا غير طريقها. ثم قالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي؛ بل عوقبنا بسبب سوء قصدنا، وحرمنا بركة حرثنا قَالَ أَوْسَطُهُمْ قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: هو أعدلهم وخيرهم. أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قيل: تستثنون. قاله مجاهد والسدي وابن جريج. وقيل: تقولون خيرا بدل ما قلتم من الشر قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ فندموا حيث لا ينفع الندم واعترفوا بالذنب بعد العقوبة، وذلك حيث لا ينجع، وقد قيل: إن هؤلاء كانوا إخوة وقد ورثوا هذه الجنة عن أبيهم، وكان يتصدق منها كثيرا فلما صار أمرها إليهم استهجنوا أمر أبيهم، وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئا فعاقبهم الله أشد العقوبة؛ ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار وحث على ذلك يوم الجداد، كما قال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ثم قيل: كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها: ضروان. وقيل: من أهل الحبشة. والله أعلم. قال الله تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ أي؛ هكذا نعذب من خالف أمرنا، ولم يعطف على المحاويج من خلقنا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي؛ أعظم وأطم من عذاب الدنيا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ .
وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ قيل: هذا مثل مضروب لأهل مكة . وقيل: هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم. ولا ينافي ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[ العودة الى قصص القرآن | قائمة الأقسام الخاصة ]
السبت، 23 يونيو 2012
نبذة عن مذهب الإمام أبي حنيفة
سؤال:
نرجو من فضيلتكم إعطاء نبذة عن الإمام أبي حنيفة وعن مذهبه حيث أنني أسمع البعض ينتقصون من مذهب الإمام وذلك لاعتماده في كثير من الأحيان على القياس والرأي .
الجواب:
الحمد لله
الإمام أبو حنيفة هو فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي ، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة ، وروى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له ، وعن الشعبي وغيرهم كثير .
وقد عني رحمه الله بطلب الآثار وارتحل في ذلك ، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك كما يقول الإمام الذهبي ، حتى قال :" وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين رضي الله عنه ورحمه "
وكان الإمام فصيح اللسان عذب المنطق ، حتى وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله :" كان أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة ، وأنبههم على ما يريد " ، وكان ورعا تقيا ، شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى ، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره ، حتى ضُرب بالسياط ليقبل تولي القضاء أو بيت المال فأبى .
حدث عنه خلق كثير ، وتوفي شهيدا مسقيا في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة . [ سير أعلام النبلاء 6 \ 390 – 403 ، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص 63 ]
أما المذهب الحنفي فهو أحد المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة ، وهو أول المذاهب الفقهية ، حتى قيل :" الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة " ، وأصل المذهب الحنفي وباقي المذاهب أن هؤلاء الأئمة - أعني أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - كانوا يجتهدون في فهم أدلة القرآن والسنة ، ويفتون الناس بحسب الدليل الذي وصل إليهم ، ثم أخذ أتباع أولئك الأئمة فتاوى الأئمة ونشروها وقاسوا عليها ، وقعدوا لها القواعد ، ووضعوا لها الضوابط والأصول ، حتى تكوَّن المذهب الفقهي ، فتكوَّن المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي وتكوّنت مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي وسفيان لكنه لم يُكتب لها الاستمرار .
وكما ترى فإن أساس تلك المذاهب الفقهية كان قائما على اتباع الكتاب والسنة .
أما الرأي والقياس الذي أخذ به الإمام أبو حنيفة ، فليس المراد به الهوى والتشهي ، وإنما هو الرأي المبني على الدليل أو القرائن أو متابعة الأصول العامة للشريعة ، وقد كان السلف يطلقون على الاجتهاد في المسائل المشكلة " رأيا " كما قال كثير منهم في تفسير آيات من كتاب الله : أقول فيها برأيي ، أي باجتهادي ، وليس المراد التشهي والهوى كما سبق .
وقد توسع الإمام أبو حنيفة في الأخذ بالرأي والقياس في غير الحدود والكفارات والتقديرات الشرعية ، والسبب في ذلك أنه أقل من غيره من الأئمة في رواية الحديث لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة ، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو الكذب في العراق في زمانه وكثرة الفتن .
ويجب ملاحظة أن المذهب الحنفي المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، ليس كل الأقوال والآراء التي فيه هي من كلام أبي حنيفة ، أو تصح أن تنسب إليه ، فعدد غير قليل من تلك الأقوال مخالف لنص الإمام أبي حنيفة نفسه ، وإنما جعل من مذهبه بناء على تقعيدات المذهب المستنبطة من نصوص أخرى للإمام ، كما أن المذهب الحنفي قد يعتمد رأي التلميذ كأبي يوسف ومحمد ، إضافة إلى أن المذهب يضم اجتهادات لتلاميذ الإمام ، قد تصبح فيما بعد هي المذهب ، وليس هذا خاصا بمذهب أبي حنيفة ، بل قل مثل ذلك في سائر المذاهب المشهورة .
فإن قيل : إذا كان مستند المذاهب الأربعة في الأصل الكتاب والسنة ، فلماذا وجدنا اختلافا في الآراء الفقهية بينها ؟
فالجواب : أن كل إمام كان يفتي بحسب ما وصل إليه من دليل ، فقد يصل إلى الإمام مالك حديث فيفتي به ، ولا يصل إلى الإمام أبي حنيفة ، فيفتي بخلافه ، والعكس صحيح ، كما إنه قد يصل إلى أبي حنيفة حديث ما بسند صحيح فيفتي به ، ويصل إلى الإمام الشافعي نفس الحديث لكن بسند آخر ضعيف فلا يفتي به ، ويفتي بأمر آخر مخالف للحديث بناء على ما أداه إليه اجتهاده ، ولأجل هذا حصل الخلاف بين الأئمة - وهذا باختصار - ، لكن المعول والمرجع في النهاية لهم جميعا إلى الكتاب والسنة .
ثم إن الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة في حقيقة أمرهم وسيرتهم قد أخذوا بنصوص الكتاب والسنة ، وإن لم يفتوا بها ، وبيان ذلك أن كل الأئمة الأربعة قد نصوا على أنه إن صح حديث ما فهو مذهبهم ، وبه يأخذون ، وبه يفتون ، وعليه يستندون .
قال الإمام أبو حنيفة :" إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وقال رحمه الله :" لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " ، وفي رواية عنه :" حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي " ، زاد في رواية أخرى :" فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا "، وقال رحمه الله :" إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي "
وقال الإمام مالك رحمه الله :" إنما أنا بشر أخطيء وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " ، وقال رحمه الله :" ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم "
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :" ما من أخذ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعزب عنه - أي تغيب - ، فمهما قلت من قول ، أو أصَّلت من أصل ، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولي "
وقال الإمام أحمد :" لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " ، وقال رحمه الله :" رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار - أي الأدلة الشرعية "
هذه نبذه يسيرة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، ومذهبه ، وختاما : لا يسع المسلم إلا أن يعرف لهؤلاء فضلهم ، ومكانتهم ، على أن ذلك لا يدعوه إلى تقديم أقوالهم على كتاب الله ، وما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسم - ، فإن الأصل اتباع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال ، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسم - كما قال الإمام مالك رحمه الله .
ولمزيد من الفائدة انظر ( 5523 ، 13189 ، 23280 ، 21420 )
وانظر المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية لعمر الأشقر .
الإسلام سؤال وجواب
جميع الحقوق محفوظة لموقع الإسلام سؤال وجواب© 1997-2006
أبو حنيفة النعمان
عودة لقائمة الشخصيات الاسلامية
عودة للصفحة الرئيسية
الإمام أبو حنيفة النعمان .. الإمام الأعظم
ولد أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80هـ من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنا بأحد ملوك الفرس...
من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل.. حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا.. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول (صلى الله عليه) احتضن سلمان الفارسي وبلالا الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان الرسول يقول «سلمان منا أهل البيت» وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن بلال: «سيدنا بلال».
ولقد شهد أبو حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي العراق وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ صباه عزوف عن الأمويين واستنكار لاستبدادهم، ورفض للطغيان.. ثم إنه ورث عن أبيه وأمه حبا لآل البيت فما كان في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين المسلمين العرب وغير العرب إلا آل البيت.
وقد تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على أئمتهم وتلقى عنهم، وعندما عاين أشكال الاضطهاد التي يكابدونها في كل نهار وليل!... حتى لقد شاهد الإمام الصادق واقفا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة فوقف قائلا: «يا ابن رسول الله، لا يراني الله جالسا وأنت واقف».
وكان أبوه تاجرا كبيرا فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف الى السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف الى العلماء فقال أبو حنيفة: «إني قليل الاختلاف إليهم» فقال له الفقيه الكبير: «عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة».
ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته.. ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!
***
وانطلق الفتى الأسمر الطويل النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ الى المعرفة، يرتاد حلقات العلماء في مسجد الكوفة.. وكان بعضها يتدارس أصول العقائد (علم الكلام)، وبعضها للأحاديث النبوية; وبعضها للفقه وأكثرها للقرآن الكريم.
ثم مضى ينشد العلم في حلقات البصرة.
وبهرته حلقة علماء الكلام، لما كان يثور فيها من جدل مستعر يرضي فتونه.
ولزم أهل الكلام زمنا ثم عدل عنهم الى الحلقات الأخرى.. فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا أعلم بأصول العقائد ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل. ومن الخير أن يهتم بالتفقه في القرآن الكريم والحديث.
وانتهت به رحلاته بين البصرة والكوفة الى العودة الى موطنه بالكوفة، وإلى الاستقرار في حلقات الفقه، لمواجهة الأقضية الحديثة التي استحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط الأحكام.
وكان أبوه قد مات، وترك له بالكوفة متجرا كبيرا للحرير يدر عليه ربحا ضخما، فرأى أبو حنيفة أن يشرك معه تاجرا آخر، ليكون لديه من الوقت ما يكفي لطلب العلم وللتفقه في الدين ولإعمال الفكر في استنباط الأحكام...
ودرس على عدة شيوخ في مسجد الكوفة ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه.. حتى إذا ما ألم بالشيخ ما جعله يغيب عن الكوفة، نصب أبا حنيفة شيخا على الحلقة حتى يعود.. وكانت نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، ولكنه عندما جلس مكان أستاذه سئل في مسائل لم تعرض له من قبل، فأجاب عليها وكانت ستين مسألة.
وعندما عاد شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في عشرين.. فأقسم أبو حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت.
ومات الشيخ وأبو حنيفة في الأربعين، فأصبح أبو حنيفة شيخا للحلقة، وكان دارس علماء آخرين في رحلات الى البصرة وإلى مكة والمدينة خلال الحج والزيارة،. وأفاد من علمهم، وبادلهم الرأي، ونشأت بينه وبين بعضهم مودات، كما انفجرت خصومات.
ووزع وقته بين التجارة والعلم.. وأفادته التجارة في الفقه، ووضع أصول التعامل التجاري على أساس وطيد من الدين..
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو مثله الأعلى في التجارة: حسن التعامل، والتقوى، والربح المعقول الذي يدفع شبهة الربا..
جاءته امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا له مائة.. وعندما فحص الثوب قال لها «هو خير من ذلك». فزادت مائة.. ثم زادت حتى طلبت أربعمائة، فقال لها: «هو خير من ذلك». فقالت: أتهزأ بي؟، فقال لها: «هاتي رجلا يقومه» فجاءت برجل فقومه بخمسمائة..
وأرادت امرأة أخرى أن تشتري منه ثوبا فقال: «خذيه بأربعة دراهم» فقالت له: «لا تسخر مني وأنا عجوز» فقال لها: «إني اشتريت ثوبين فبعته أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقي هذا الثوب على أربعة دراهم».
وذهب الى حلقة العلم يوما، وترك شريكه في المتجر، وأعلمه أن ثوبا معينا من الحرير به عيب خفي، وأن عليه أن يوضح العيب لمن يشتريه.
أما الشريك فباع الثوب دون أن يوضح العيب!..
وظل ابو حنيفة يبحث عن المشتري ليدله على العيب، ويرد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب كله، وانفصل عن شريكه..
بهذا الحرج كان يتعامل في تجارته مع الناس، وفي فهمه للنصوص، وفي استنباطه للقواعد والأحكام..
وعلى الرغم من أنه كان يكسب أرباحا طائلة، فقد كان لا يكنز المال.. فهو ينفق أمواله على الفقراء من أصدقائه وتلاميذه.
يحتفظ بما يكفيه لنفقة عام ويوزع الباقي على الفقراء والمعسرين.. فإذا عرف أن أحدا في ضيق، أسرع إليه، وألقى إليه بصرة على بابه، ونبهه الى أنه وضع على بابه شيئا، ويسرع قبل أن يفتح صاحب الحاجة الصرة..
وكان على ورعه وتقواه واسع الأفق مع المخطئين.. كان له جار يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء:
ليوم كريهة وسداد ثغر
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
وكان صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة.. حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت الجار السكير، فلما أصبح الصباح سأله عنه فعلم أنه في السجن متهما بالسكر. وركب أبو حنيفة الى الوالي فأطلق سراح السكير.
وعندما عادا معا سأله أبو حنيفة «يا فتى هل أضعناك؟» فقال له «بل حفظتني رعاك الله».
وما زال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر. وأصبح من رواد حلقات العلم ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة.
***
وكان أبو حنيفة يدعو أصحابه الى الاهتمام بمظهرهم.. وكان إذا أقام للصلاة لبس أفخر ثيابه وتعطر، لأنه سيقف بين يدي الله.
ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب رثة، فدس في يده ألف درهم وهمس: أصلح بها حالك. فقال الرجل: لست أحتاج إليها وأنا موسر وإنما هو الزهد في الدنيا. فقال أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟
وكان شديد التواضع، كثير الصمت، يقتصد في الكلام، ولا يقول إلا إذا سئل، وإذا اغلظ إليه أحد أثناء الجدال صبر عليه. وإذا دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها سترا، ليحفظها من عيون الرجال، وأجابها عما تسأل.. نبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه العميق لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم من فهمه الواعي للإسلام، واتباعه اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية.. وقد قاده اجتهاده الى الإفتاء بأن الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة بلا استثناء.. حتى القضاء!
ولقد كان في حرصه على إرضاء أمه. يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه، لأن الأم كانت تعتقد بفضل ذلك الفقيه!
وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانا، فتأمره أن يحملها الى أحد الوعاظ، فيقودها اليه عن طيب خاطر.. ولقد قال لها الواعظ يوما:. «كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟»
ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصة على إرضائها، لا يرد لها طلبا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه وقالت له: «ما خير علم يصيبك بهذا الضياع؟». فقال لها: «إنهم يريدونني على الدنيا وأنا أريد الآخرة وإنني أختار عذابهم على عذاب الله».
ولكم تحمل أبو حنيفة من عذاب!!!
كان مخالفوه في الرأي يغرون به السفهاء والمتعصبين والمتهوسين ويدفعونهم الى اتهامه بالكفر، الى التهجم عليه، فيقابلهم بالابتسام.
ولقد ظل أحد هؤلاء السفهاء يشتمه، فلم يتوقف الإمام ليرد عليه، وعندما فرغ من درسه وقام، ظل السفيه يطارده بالسباب، والإمام لا يلتفت إليه، حتى إذا بلغ داره توقف عند باب الدار قائلا للسفيه: «هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري»...!
***
كان خصوم أبي حنيفة صنفين: بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم الى حلقة أبي حنيفة، وحكام ذلك الزمان.
أما أعداء أبي حنيفة من الفقهاء فقد كان على رأسهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة.
كان أعداؤه فقهاء للدولة في العصر الأموي، حتى إذا جاء العصر العباسي تحولوا الى الحكام الجدد، واحتالوا عليهم بالنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى، يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام السابقين من طغيان عدوان وبغي واستغلال وبطش بالمعارضين.. واصطنعوا من الآراء الفقهية، وقبلوا من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ما يسند الطبقة الحاكمة والمستغلين، وما يصرف الناس عنهم عن أمور الدنيا، وعن سياسة حياتهم، لينقطع الناس الى التقشف، ويتركوا مستغليهم يستبدون ويعمهون!
وكان أبو حنيفة يحتفظ باستقلاله أمام الحكام فيحترمه الحكام... وهو يلبس أغلى الفراء في الشتاء، ويتحلى طوال العام بثياب فاخرة، ويتعطر، ويتنعم بالطيبات من الرزق، وبزينة الحياة التي أحلها الله لعباده...
وكان يقاوم كما قاوم أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق من قبل بدعة تزيين التقشف والانصراف عن هموم الحياة، وترك الأمر كله لطبقة بعينها تملك وتستغل وتحكم وتستبد!
على أن ميل أبي حنيفة الى الأئمة من آل البيت أوغر عليه صدور الأمويين والعباسيين على السواء.
ففي العصر الأموي قالوا «أن تكون كافرا أو مشركا خير من أن تكون علويا»..
وفي العصر العباسي توالت المحن على العلويين، وأبو حنيفة يفتي بأن العلويين أصحاب حق..
على أنه مال إلى العباسيين أول الامر، وتوسم فيهم الخير، ولكنه إذ وجد الفقهاء الذين نافقوا الأمويين وزينوا لهم العدوان، هم الذين يشيرون على الخلفاء العباسيين، أصابته خيبة الأمل فيهم.. ثم إن العباسيين بطشوا بأبناء عمومتهم العلويين، فساء رأي أبي حنيفة في العباسيين.
وأبو حنيفة على الرغم من سماحته لا يسكت عن خطأ الفقهاء من الذين جعلوا كل همهم نفاق الحكام وإرضاءهم.. كان بعضهم يفتي في المسجد الى جوار حلقة أبي حنيفة، فإذا أخطأ انبرى له أبو حنيفة يكشف ذلك الخطأ، ويعلن الصواب على الناس.
وكاتن ينتقد أخطاء ابن أبي ليلى نقدا أوغر عليه صدر الرجل.. حتى نقد حكما فاحش الخطأ فانفجر غضب ابن ابي ليلى.. «وذلك أن أمرأة مجنونة قالت لرجل: «يا ابن الزانيين» فأقام عليها ابن أبي ليلى الحد في المسجد، وجلدها قائمة، وأقام عليها حدين حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم.
وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: «أخطأ ابن أبي ليلى في عدة مواضع: أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود في المساجد. وضربها قائمة والنساء يضربن قعودا. ولضرب لأبيه حدا ولأمه حدا ولو أن رجلا قذف جامعة ما كان عليه غير واحد، فلا يجمع بين حدين. والمجنونة ليس عليها حد. وحد لأبويه وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا».
وذهب ابن أبي ليلى الى الخليفة يشكو أبا حنيفة، واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه، ويظهره للناس بمظهر الجاهل، وفي ذلك إهانة للخليفة نفسه لأن ابن أبى ليلى إنما ينوب عن الخليفة في القضاء ويحكم بين الناس..!
وأصدر الخليفة أمرا بمنع أبي حنيفة من التعليق على أحكام القضاة، وبمنعه من الفتوى.. حتى إذا احتاج الخليفة الى رأي في أمر معقد لا يطمئن فيه الى فتاوى الفقهاء من متملقيه، أرسل يستفتي أبا حنيفة، فامتنع عن الفتوى إلا أن يأذن الخليفة له في أن يفتي للناس جميعا. فأذن له.
وعاد يفتي، وعاد ينتقد الأحكام!.
وأراد الخليفة المنصور أن يكتب عقدا محكما فلم يسعفه الفقهاء الذين يصانعونه، فلجأ الى أبي حنيفة فأملى العقد من فوره فأزرى الفقهاء من بطانة الخليفة بما صنعه حسدا من عند أنفسهم. ولكن الخليفة زجرهم، وصرح بأن أبا حنيفة هو أفقه الجميع، وإن كان ليكره مواقفه وآراءه.
وعندما وقع خلاف بين الخليفة المنصور وزوجته لأنه أراد أن يتزوج عليها، أراد أن يحتكما الى فقيه، فرفضت الزوجة الاحتكام الى قاضي القضاة ابن أبي ليلى أو الى تابعه شبرمة أو إلى أحد الفقهاء من بطانة المنصور!
وطلبت أبا حنيفة.
وعندما حضر أبو حنيفة أبدى الخليفة رأيه أن من حقه الزواج لأن الله أحل للمسلم، الزواج بأربع، والتمتع بمن يشاء من الإماء مما ملكت يمينه.
فرد أبو حنيفة: «إنما أحل الله هذا لأهل العدل. فقمن لم يعدل فواحدة. قال الله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). فينبغي أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه».
وضاق الخليفة بفتواه. ولكنه أخذ بها.
وخرج أبو حنيفة الى داره. فأرسلت له زوجة الخليفة خادما ومعه مال كثير وأحمال من الثياب الفاخرة النادرة، وجارية حسناء، وحمار مصري فاره هدايا لأبي حنيفة.
فقال أبو حنيفة للخادم: «اقرئها سلامي. وقل لها إني ناضلت عن ديني وقمت بذلك المقام لوجه اله. لم أرد بذلك تقربا الى أحد ولا التمست به دنيا. ورد الجارية الحسناء والثياب والمال والحمار المصري جميعا.
كان أبو حنيفة لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات.
الواقع والمتوقع هما ما كان يعني باستنباط الأحكام لمواجهتهما إن لم يجد نصا في الكتاب أو السنة أو الإجماع.
وكان يناظر الفقهاء ببديهة حاضرة يقلب الرأي على وجوهه، ويفترض، ويستقرئ ويستنبط، ويحسن الخلوص الى الغاية والخلاص من المأزق، ويلزم المناظر الحجة.
وهو مع ذلك يقول: «ربما كان ما قلته خطأ كله، لا الصواب كله».
ولقد اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان الخوارج يقتلون مخالفيهم. وكانوا يقتلون من أقر عليا بن أبي طالب على التحكيم. وخيره شيخ الخوارج بين التوبة أو القتل، فسأله أبو حنيفة أن يناظره، فرضي، فقال له: فإن اختلفنا؟ قال الخارجي: نحكم بيننا رجلا.. فضحك أبو حنيفة قائلا: أنت بهذا تجيز التحكيم.
فانصرف عنه الخوارج وتركوه سالما.
***
وكم من مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته..!
ولكنه لم يستطع أن يفلت من مصائد أعدائه من المرتزقة في بلاط الأمراء...
كانت صلابته، واحترام الحكام له، وإيثارهم إياه على الفقهاء المرتزقة من بطانتهم، تثير هؤلاء الفقهاء وتحرك حسدهم.. فأوغروا صدور الحكام حتى أوقعوا به. وحاولوا أن يقتنصوه بفضائله.
إنه لشجاع في الحق.. وإذن فلينصبوا له شركا من جسارته وتقواه..!
إن مواقفه في تأييد آل البيت لتؤجج غضب الحكام عليه.
ثم كانت آراؤه تزيد سخطهم عليه اشتعالا: فقد نادى بالرأي إن لم يكن هناك نص في الكتاب أو السنة، واتجه استنباط الأحكام إلى إلحاق الامور غير المنصوص على أحكامها بما نص على حكمه في حدود ما يحقق مصلحة الأمة ويتسق مع عرف البلد وعاداته، إن لم تخالف هذه العادات والأعراف روح الشريعة أو نصوصها.
أما عن مواقفه في تأييد آل البيت فقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من العباسيين، وجاهر بالانحياز الى العلويين. ولم يكتم هذا الميل قط، وظل يذيعه بلا تهيب.!
على أن الموقف ليس جديدا عليه. فقد أيد ثورة الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين أيام الحكم الأموي. وسمى خروج زيد جهادا في سبيل الله، وشبه بيوم بدر وحاول أن يخرج مع الإمام زيد،ولكن كانت لديه ودائع للناس أراد أن يسلمها لابن أبي ليلى فرفض. ولم يجد أبو حنيفة إلا ماله يجاهد به فأرسل إلى الإمام زيد مالا كثيرا يمير به جيشه ويقويه.
وحين ولي العباسيون أيدهم أول الأمر ولكنهم بطشوا بمعارضيهم، وصادروا حرية الرأي، ونكلوا بالعلويين، ونكلوا عن العدل الذي بايعهم عليه، فأعلن عدم رضاه عنهم في حلقات الدروس..
وكان المنصور قد جمع رؤوس العلويين وسجنهم. وصادر أموالهم وأراضيهم، ثار العلويون بقيادة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله، فبعث المنصور جيشا ضخما ليحصد العلويين.
أعلن أبو حنيفة تأييده للثورة، وبكى مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور في إخماد الثورة والقضاء على قائديها وفتك بأهل المدينة المنورة الذين أيدوا الثورة..
وكان عبد الله بن الحسين شيخ أبي حنيفة والد محمد النفس الزكية وإبراهيم في سجن المنصور يعذب حتى الموت.
وحين مات أعلن أبو حنيفة في حلقته أن واحدا من أفضل أهل الزمان قد استشهد في سجنه. وبكاه وأبكى عليه.
وأما آراؤه التي أشعلت سخط الحاكم وحاشيته عليه فهي تلك التي استنبطها بالقياس حتى لقد اتهمه بعض الفقهاء من خصومه بأنه يفضل القياس على الحديث.
وما كان هذا صحيحا فقد رأى أبو حنيفة ظاهرة خطيرة، فأراد أن ينجو بدينه منها، وينجي معه الناس: ذلك أنه خلال الصراعين السياسي والاجتماعي، انتشر وضع الحديث خدمة لهذا الجانب أو ذاك، وتأييدا لهذه المصلحة أو تلك، فوقف أبو حنيفة من الحديث موقف أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق.. وتحرى الرواة وصدقهم، وتحرى معاني الأحاديث، ورفض منها ما يشك في صدق رواتها وتقواهم، أو ما يخالف نصا قرآنيا، أو سنة مشهورة، أ» مقصدا واضحا من مقاصد الشريعة. وقد فحص الأحاديث الموجودة في عصره وكانت عشرات الآلاف فلم يصح في نظره منها إلا نحو سبعة عشر.
وذهب إلى أن القياس الصحيح يحقق مقاصد الشارع، ويجعل الأحكام أصوب وهو خير من الاعتماد على أحاديث غير صحيحة.. وللقياس ضوابط هي تحقيق المصلحة وهذا هو هدف الشريعة.
لقد كان تحرج أبي حنيفة وذمته وتقواه هي العوامل التي دفعته الى الحذر في قبول الأحاديث إذا شك في صحتها على أي نحو، وكان عليه إذن أن يجد طريقا آخر لاستنباط الأحكام الجديدة قياسا على أحكام ثابتة في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة أو أقوال الصحابة السابقين من أهل الفتيا كعمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.. وكان عبد الله ابن مسعود يفضل أن يفتي باجتهاده بدلا من أن يسند الى الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديثا لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح.
وقد جد في عصر أبي حنيفة كثير من الحوادث والأقضية والأحوال، بعد اتساع الدولة وتشابك الأمور، وظهور ألوان كثيرة خصبة من النشاط التجاري والاجتماعي، وواجه الإمام هذا كله بالاجتهاد لاستنباط الأحكام التي تضبط العلاقات.
وما كان يبتدع في قياسه كما رماه خصومه، وما كان يهدر السنة كما حاول ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة أن يصوراه كيدا له، بل كان منهجه هو قياس «المسألة على أخرى ليردها الى أصل من أصول الكتاب والسنة واتفاق الأئمة.. فيجتهد». وقد لخص هو منهجه في استنباط الأحكام في وصية لأحد تلاميذه ممن تولوا القضاء.. قال: «إذا أشكل عليك شيء فارحل إلى الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدت ذلك ظاهرا فاعمل به، وإن لم تجده ظاهرا فرده الى النظائر واستشهد عليه بالأصول، ثم اعمل بما كان الى الأصول أقرب بها أشبه».
***
وقاده هذا الإجتهاد إلى عديد من الآراء الحرة: الدعوة الى المساواة بين الرجل والمرأة، في عصر بدأت المرأة فيه تتحول الى حريم للمتاع!
فأفتى بأن للبالغة أن تزوج نفسها.. وهي حرة في اختيار زوجها.
كما أفتى بعدم جواز الحجر على أحد، لأن في الحجر إهدار للآدمية وسحقا للإرادة..
وأفتى بعدم جواز الحجر على أموال المدين، حتى لو استغرقت الديون كل ثروته. لأن في هذا مصادرة لحريته..
وفي كل أمر من أمور الحياة تتعرض فيه حرية الإنسان لأي قيد، أفتى الإمام أبو حنيفة باحترام الحرية وكفالتها، لأن في ضياع حرية الإنسان أذى لا يعدله أذى..
لقد أفتى بكل ما ييسر الدين والحياة على الإنسان فذهب الى أن الشك لا يلغي اليقين، وضرب لذلك مثلا بأن من توضأ ثم شك في أن حدثا نقض وضوءه، ظل على وضوئه، فشكه لا يضيع يقينه.
وأفتى بأنه لا يحق لأحد أن يمنع المالك من التصرف في ملكه.
ولا يحق لأحد أن يحكم على مسلم بالكفر ما ظل على إيمانه بالله ورسوله حتى لو ارتكب المعاصي. ومن كفر مسلما فهو آثم.
وأفتى بأن قراءة الإمام في الصلاة تغني عن قراءة المصلين خلفه، فتصح صلاتهم دون قراءتهم إكتفاء بقراءة الإمام وحده.
ولقد أثار هذا الرأي بعض الناس، فذهبوا الى الإمام ليحاوروه في رأيه فقال لهم «لا يمكنني مناظرة الجميع فولوا أعلمكم» فاختاروا واحدا منهم ليتكلم عنهم. وسألهم أبو حنيفة إن كانوا يوافقون على أنه إذ قد ناظر من اختاروه ليكون قد ناظرهم جميعا، فوافقوا، فقال لهم أبو حنيفة: «وهكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا وهو يناب وعنا» فانصرفوا مقتنعين.
ودعا الى ضرورة العفو عن المخطئ إن لم تثبت عليه أدلة الإدانة ثوبتا قطعيا لا يشوبه الشك أو الظن، أعتمادا على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر بدرء الحدود قدر المستطاع.. فالحدود تدرأ بالشبهات «فإن كان للمذنب مخرج أخلى سبيله. وأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة».
وهو يطالب الناس بأن يسألوا في العلم بلا حرج، على أن يحسنوا السؤال. وكان يقول: «حسن السؤال نصف العلم»
وهو في اجتهاده يعرف مكانته، إن كان واثقا بنفسه، معتزا بكبريائه العلمي على الرغم من تواضعه الشديد.
ولقد سئل: «إذا قلت قولا وظهر خبر لرسول الله يخالف قولك؟ قال: إترك قولي بخبر رسول الله، وكل ما صح عن رسول الله فهو على العين والرأس. فقال السائل: فإذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟. قال: أترك قولي بقول الصحابي. فقال السائل: فإذا كان قول التابعي يخالف قولك؟. قال أبو حنيفة: إذا كان التابعي رجلا فأنا رجل».
ويروى عنه أنه ذهب الى المدينة المنورة فجادل الإمام مالك بن أنس يوما في أمور اختلفا عليها وحضر المناظرة الإمام الليث بن سعد إمام مصر وهو الإمام الذي عاش في عصر الإمام جعفر الصادق وأبي حنيفة والإمام مالك وقال عنه أحد الفقهاء المتأخرين إنه حقا أفقه الناس ولكن المصريين أضاعوه فلم يحفظوا فقهه; واستمرت المناظرة طويلا حتى عرق الإمام مالك. وعندما خرج أبو حنيفة قال مالك لصديقه الليث: إنه لفقيه يا مصري!
قام فقه الإمام أبي حنيفة على احترام حرية الإرادة، ذلك أن أفدح ضرر يصيب الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها.. وكل أحكامه وآرائه قائمة على أن هذه الحرية يجب صيانتها شرعا، وأن سوء استخدام الحرية أخف ضررا من تقييدها!.
فإساءة الفتاة البالغة في اختيار زوجها أخف ضررا من قهرها على زواج بمن لا تريده. وسوء استخدام السفيه لماله، يمكن علاجه بإبطال التصرفات الضارة به، أما الحجر على حريته فهو إهدار لإنسانيته، وهو ضرر لا يصلحه شيء!! وعلى أية حال فأذى الحجر أخطر من أذى ضياع المال ـ فالحجر إيذاء للنفس، وإهدار للإرادة، واعتداء على إنسانية الإنسان!!
وأبو حنيفة لايجيز الوقف إلا للمساجد لأن الوقف أو الحبس يقيد حرية المالك في التصرف.. بل إن الإمام إمعانا منه في الدفاع عن الحية لا يجيز للقاضي أن يقيد حرية المالك، حتى إذا أساء التصرف على نحو يهدد الغير.. وهو يطالب بأن يترك هذا كله للشعور بالتعاون الإجتماعي الذي يجب أن يسود أفراد الأمة.. فيحترم كل منهم حرية الآخرين، ويمارس حريته بما لا يمس مصالح الغير أ» حريته هذا أمر يجب أن يترك للناس فيما بينهم ولا سبيل للحاكم أو القضاء الى التدخل لتقييد حرية المرء في التصرف مهما يكن من شيء!
ولقد جاءه رجل يشكو جاره لأنه حفر بئرا بجوار جداره مما يؤثر في بيت الشاكي، فطلب أبو حنيفة من الشاكي أن يحدث جاره ليردم البئر، ويحفر في مكان آخر، فقال الرجل: «حدثته فامتنع ظالما». فقال أبو حنيفة: «فاحفر في دارك بالوعة في مقابل بئره». وفعل الرجل، فاندفع ماء البئر الى البالوعة، فاضطر الجار أن يردم البئر، ويحفرها في مكان بعيد عن جدار الشاكي.
وهكذا مضى أبو حنيفة يوضح للناس ما في تعاليم الإسلام من احترام للحرية والإرادة، معتمدا على الكتاب، والسنة الصحيحة، والرأي الذي يستنبطه بالقياس، مراعيا تحقيق المصلحة، أو الأعراف التي لا تتعارض مع قواعد الإسلام ومبادئه.
وقد أغنت آراؤه في الفقه وجدان الناس وأيقظت ضمائرهم، وحركتهم للدفاع عن حرياتهم في التصرفات، متمسكين في ممارستهم للحرية بمبادئ الدين وأصوله..
وكانت هذه الآراء كلها تناقض روح العصر الذي عاش فيه وهو عصر يقوم نظام الحكم فيه على تكفير الخصوم، وإهدار دمائهم، وتقييد الحريات، وإطلاق يد الحاكم، وتمكين ذوي السطوة من الضعفاء.
من أجل ذلك اتهمه خصومه من الفقهاء أصحاب المناصب بالخروج عن الإسلام..!
ثم إنه أفتى بتحريم الخروج لقتال المسلمين والفتك بهم.
وبهذا صرف بعض قواعد الجيش في عصره عن حرب العلويين وخصوم الحكام ومعارضي آرائهم.!
ومن ذلك أن الحسن بن قحطبة أحد قواعد المنصور دخل على أبي حنيفة يسأله: «أيتوب علي الله؟». وكان الحسن هذا قد قاد جيوشا للمنصور فقتل العلويين وخصوم العباسيين فقال له أبو حنيفة: «إذا علم الله تعالى أنك نادم على ما فعلت، فلو خيرت بين قتل مسلم وقتل نفسك لاخترت ذلك على قتله، وتجعل مع الله عهدا على ألا تعود لقتل المسلمين، فإن وفيت فهي توبتك»، فقال القائد: «إني فعلت ذلك وعاهدت الله على ألا أعود الى قتل مسلم». ثم ثار العلويون فأمر المنصور القائد أن يفتك بهم، فجاء القائد إلى أبي حنيفة يسأله الرأي فقال له أبو حنيفة: فقد جاء أوان توبتك. إن وفيت بما عاهدت فأنت تائب وإلا أخذت بالأول والآخر».
فامتنع القائد عن تنفيذ أمر المنصور، وسلم نفسه الى العقاب وهو القتل، إذ دخل على المنصور فقال أنه لن يقتل المسلمين بعد! فغضب الخليفة عليه وأمر بقتله، حتى استشفع له أخوه قائلا «إننا لننكر عقله منذ سنة، وأنه قد جن».
وسأله الخليفة عمن يخالط القائد المتمرد، فقيل إنه يتردد على أبي حنيفة!
وأسرها الخليفة لأبي حنيفة.
على أن خصوم أبي حنيفة انتهزوا الفرصة فأوغروا صدر الخليفة وأوحوا إليه أن يقضي على أبي حنيفة واتهموه بإثارة الفتنة، وتثبيط قواد الجيش، وتأليب العامة على ولي الأمر، وتكوين حلقة من الفقهاء كلهم يدعو الى الثورة على الخليفة.
وكان من هؤلاء الخصوم فقيه أفتى للناس بأن تلاميذ أبي حنيفة خارجون على ولي الأمر ومرتدون عن الإسلام فأن يقال إن بالحي خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبي حنيفة..
وكان منهم فقيه آخر عرف وه في الحج أن أحد أصحاب أبي حنيفة سيصلي بالناس فلم يستطع كظم غيظه وصاح: «الآن يطيب لي الموت»..!
***
ورفض أبو حنيفة أن يقبل المناصب.. عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن.. وظلوا يضربونه كل يوم بالسياط حتى ورم رأسه.. ومع ذلك فلم يقبل المنصب.. لأنه كان يرى أن تحمل المسؤولية في عهد يعتبر هو حاكميه ظالمين مغتصبين، إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للإغتصاب..
وفي السجن تذكر أمه الحزينة فبكى.. وسأله جاره في السجن عما يبكيه وهو الفقيه الجليل الصلب، فقال من خلال دموعه: «والله ما أوجعتني السياط. بل تذكرت أمي فآلمتني دموعها».
وساءت صحته في السجن. وبدأت الثورة تتجمع ضد الخليفة الأموي احتجاجا على ما يحدث لأبي حنيفة فأطلق سراحه.
ولم يعد له مقام في الكوفة التي شهدت عذابه.. فترك مسقط رأسه، ومرح شبابه، بكل ما فيها من ذكريات عزيزة وآمال عذبة، وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية، فعاد الى موطنه!
ولكن العباسيين لم يتركوه.. فمنذ شعر بخيبة الأمل فيهم لبغيهم واضطهادهم للعلويين، واصطناعهم المرتزقة من الفقهاء، بدأ يجهر برأيه في استبدادهم وطغيانهم.
ورفض كل هداياهم، كما رفض هدايا الأمويين من قبل.
وعرضوا عليه منصب قاضي القضاة فأبى.. وتمسك بالتفرغ للعلم.
قالوا له أنه قد حصل من العلم ما يجعله في غنى عنه فرد: «من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه».
بعد أن فرغ المنصور من بناء بغداد، وأقام فيها معتزا بها، حرص على أن يجعل أكبر فقهاء العراق قاضي القضاة فيها. وكان أبو حنيفة قد أصبح أكبر الفقهاء بالعراق حتى سماه أتباعه ومريدوه: الإمام الأعظم. ولكن الإمام صمم على الرفض.
كان يعرف ما ينتظره.. فابن أبي ليلى لا يكف عن الكيد له، وهو لا يغفر لأبي حنيفة ما يوجهه من نقد لاذع لأحكامه.
وقد ضم ابن أبي ليلى إليه حاجب الخليفة ووزيره الأول، وكان أبو حنيفة قد أحرجه وكشف أكاذيبه أمام الخليفة في محاورة حاول فيها الوزير الأول أن يوقع بالإمام ففضحه الإمام وأفسد حيلته.
وقد أفتى أبو حنيفة بأن الوزير لا تصح شهادته لأنه يقول للخليفة أنا عبدك «فإن صدق فهو عبد ولا شهادة له. وإن كذب فلا شهادة لكاذب»!!
وقد أخذ أحد تلاميذ أبي حنيفة بهذا النظر فيما بعد حين ولي القضاء فرد شهادة الوزير الأول لخليفة آخر، لأنه قبل الأرض بين يدي الخليفة قائلا له: أنا عبدك!
***
إتسعت الفتوحات حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، وحتى ارتفعت الراية الإسلامية فوق شرق أوربا وجنوبها والأندلس، وكل بلاد العالم التي عرفها إنسان ذلك العصر..
وعلى الرغم من ازدهار الحضارة، فقد شغل رجال الحاشية بالكيد لابي حنيفة يظاهرهم بعض الفقهاء أصحاب المناصب وأهل الحظوة عند الخليفة.
وأخذ الوزير الأول يكيد عند الخليفة لأبي حنيفة. وانتهز فرصة خروج أهل الموصل على الخليفة، وكانوا قد شرطوا على أنفسهم إن هم خرجوا على الخليفة أن تباح دماؤهم وأموالهم. وأرسل الخليفة الى ابن شبرمة وابن أبي ليلى ليسألهما رأي الدين في أهل الموصل، وكان قد أعد جيشا للفتك بهم. واقترح الوزير الأول على الوزير أن يدعو أبا حنيفة وكان يعرف أن تقواه وشجاعته وكل فضائله ستقوده الى مخالفة رأي الخليفة. وحضر الفقهاء الثلاثة فسألهم عن حكم الشرع في أهل الموصل. وسكت أبو حنيفة وأفتى الآخران بأن أهل الموصل يستحقون الفتك بهم!...
وأفتى أبو حنيفة بأن الخليفة لا يحق له الفتك بأهل الموصل، لأنهم بإباحتهم أرواحهم وأموالهم إنما أباحوا ما لا يملكون.
وسأل: «لو أن امرأة أباحت نفسها بغير عقد زواج أتحل لمن وهبته نفسها؟ فقال له الخليفة «لا».
فطلب الإمام أبو حنيفة منه أن يكف عن أهل الموصل فدمهم حرام عليه، وأن يوجه الجيش الى حماية الثغور، أو إلى فتح جديد لنشر الإسلام، بدلا من أن يضرب به المسلمين.
وضاق به الخليفة وأمره أن ينصرف.. ومن حول الخليفة أعداء الإمام يستفزونه للبطش به وفي مقدمتهم ابن أبي ليلى قاضي القضاة وتابعه شبرمة.
ومضى أبو حنيفة إلى داره وهو يقول لصحبه: «إن ابن أبي ليلى ليستحل مني ما لا استحله من حيوان!».
وفي الحق أن ابن أبي ليلى وشبرمة والعصبة المعادية لأبي حنيفة في قصر الخليفة زينت للخليفة أن يقهر أبا حنيفة على قبول ما يعرضه عليه من مناصب، فإذا أبى فقد امتنع عن أداء واجب شرعي فحق عليه العقاب، ووجب أن يشهر به في الأمة، لأنه يتخلى عن خدمتها.!
واقترحوا على الخليفة أن يبدأ فيمتحن ولاءه، فيرسل إليه هدية.
وكانوا يعرفون سلفا أن الإمام أبا حنيفة لن يقبل الهدية..!
وأرسل له الخليفة مالا كثيرا وجارية.. فرد الهدية شاكرا.
ثم أرسل الخليفة إليه يلح عليه في ولاية القضاء أو في أن يكون مفتيا للدولة يرجع إليه القضاة فيمن يصعب عليهم القضاء فيه..بما أنه يكثر من لوم القضاة على أحكامهم، ويكشف للعامة جهل شيخهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة!
ورفض أبو حنيفة.. فاستدعاه الخليفة يسأله عن سبب رفضه فقال له: «والله ما أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو الحكم لك لاخترت أن أغرق. ثم إن تلك حاشية يحتاجون الى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك.»
وكانت الحاشية كلها تحيط بالخليفة، وعلى رأسها وزيره الأول والفقيهان ابن أبي ليلى وشبرمة، فأبدوا التذمر وبان عليهم استنكار ما يقوله الإمام أبو حنيفة، فقال الخليفة محنقا: «كذبت».
فقال أبو حنيفة في هدوء: قد حكمت على نفسك.. كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كاذب؟!
وبعد قليل سأله الخليفة عن سبب رفض هداياه.. فقال له أبو حنيفة أنها من بيت مال المسلمين ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر وهو ليس واحدا من هؤلاء!
فأمر الخليفة بحبسه. وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد.
وهاهو شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم والتحرج.. هاهو ذا يضرب، ويظل يضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة، ومنصب القضاء والإفتاء.. وهو يرفض.. فيعاد الى السجن ليعذب من جديد.. ويكررون العرض، وهو يكرر الرفض داعيا الله «اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك».
وظل في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى.. ويعذب من جديد!
وتدهورت صحته، وأشرف على الهلاك.
وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى في السجن، فيثور الناس!.
وقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم،
وأخرجوه وهو يعاني سكرات الموت، وما عاد يستطيع أن يروي لأحد شيئا بعد!!
وحين شعر بأنها النهاية أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله. وهكذا مات فارس الرأي الذي عرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام الأعظم.
وشيعه خمسون ألفا من أهل العراق واضطر الخليفة أن يصلي على الإمام الذي استقر الى الأبد في ركن هادئ من الدنيا لم يشبه غضب، والخليفة يهمهم: «من يعذرني من أبي حنيفة حيا وميتا؟».
وهكذا مضى بطل الفكر الشجاع شهيدا لحرية الرأي في محنة من العذاب لم يعرفها أحد من الفقهاء من بعده حتى كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة.. في عصر زري كذلك العصر.. عصر تحكمه الدسائس والسموم وسياط الجلادين، على الرغم من روعة الفتحات العسكرية، وانتصارات العقل الإنساني، ويبطش فيه المزيفون برهان الحرية وفرسان الفكر..
وتظل المنارات الشامخة فيه مضيئة على الرغم من كل شيء، تقدم للإنسانية جيلا بعد جيل عطاء خالدا من شعاع المعرفة، والقوة، وجسارة الكلمة الصادقة الأبية الفاضلة..!
المصدر: عبد الرحمن الشرقاوي ـ أئمة الفقه التسعة ـ العصر الحديث للنشر والتوزيع 1985
قالوا عنه
يقول عنه الشافعي: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة"،
وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة.
وقيل: لو وزن علم الإمام أبو حنيفة بعلم أهل زمانه؛ لرجح علمه عليهم.
وقال عنه ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة.
وقال عنه يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.
يتصفح الموقع حالياً ( 20 ) زائر من الدول :
السويد ( 2 ) الإمارات ( 1 )
السودان ( 1 ) الأردن ( 2 )
السعودية ( 6 ) عمان ( 1 )
فلسطين ( 1 ) مصر ( 2 )
ألمانيا ( 3 ) الدنمارك ( 1 )
جميع الحقوق محفوظة لشبكة أرض الشرق
Ardalsharq.com 2000-2003
webmaster@ardalsharq.com
Tel: 20124501559
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)