المتابعون

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣_٤
من سورة الرعد 
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ (٤)﴾ [الرعد ٣-٤]

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ أَيْ: جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بِجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ شَامِخَاتٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْجَدَاوِلَ وَالْعُيُونَ لِسَقْيِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ.﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أَيْ: جَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا(١) يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشيه هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الْآخَرُ، فَيَتَصَرَّفُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ كَمَا تَصَرَّفَ فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ.﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ: فِي آلَاءِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ(٢) وَدَلَائِلِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ أَيْ: أراضٍ تُجَاوِرُ(٣) بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَهَذِهِ سَبَخة مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرِهِمْ.وَكَذَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ(٤) وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ مُرَمَّلَةٌ، وَهَذِهِ سَمِيكَةٌ، وَهَذِهِ رَقِيقَةٌ، وَالْكُلُّ مُتَجَاوِرَاتٌ. فَهَذِهِ بِصِفَتِهَا، وَهَذِهِ بِصِفَتِهَا الْأُخْرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾(٥) يُحْتَمَلُ(٦) أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى ﴿جَنَّاتٍ﴾ فَيَكُونُ ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾(٧) مَرْفُوعَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا؛ وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ الصِّنْوَانُ: هِيَ الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ، كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: مَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَمِنْهُ سُمِّي عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِعُمَرَ: "أَمَّا شَعَرْتَ(٨) أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ "(٩) .وَقَالَ سفيان الثوري، وشعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصِّنْوَانُ: هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: الْمُتَفَرِّقَاتُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ: "الدَّقَل وَالْفَارِسِيُّ، والحُلْو وَالْحَامِضُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ(١٠) .أَيْ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ، فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، وَأَوْرَاقِهَا وَأَزْهَارِهَا.فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا(١١) فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا(١٢) جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ(١٣) مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾

(١) في ت: "منها".
(٢) في ت، أ: "وحكمه".
(٣) في ت: "يجاورها".
(٤) في ت: "محجر".
(٥) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٦) في ت: "تحتمل".
(٧) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٨) في أ: "أما علمت".
(٩) رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٨٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(١٠) سنن الترمذي برقم (٣١١٨) . والدقل: الرديء واليابس من التمر. والفارسي: نوع من التمر.
(١١) في ت: "وهذا".
(١٢) في ت، أ: "وهذا قد جمع".
(١٣) في ت: "تستمد".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2024

من سورة الرعد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١ من 
سورة الرعد 
﴿الۤمۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِۗ وَٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ [الرعد ١]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الرَّعْدِ[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ](١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *(٢)أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ(٣) فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وقَدَّمنا أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ تَبتدأ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَتِبْيَانُ أَنْ نُزُولَهُ(٤) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا رَيْبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: التَّوْارَةُ وَالْإِنْجِيلُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ(٥) بَلْ هُوَ بَعِيدٌ.ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ عَطْفَ صِفَاتٍ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، ﴿مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ خَبَرٌ تَقَدَّمُ مُبْتَدَؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِتَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً أَوْ عَاطِفَةً صِفَةً(٦) عَلَى صِفَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرُ:إِلَى المَلك القَرْمِ وَابْنِ الهُمَام ... وَلَيث الْكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ(٧)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣] أَيْ: مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، لَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ وَالنِّفَاقِ.

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في أ: "تقدم الكلام عليها".
(٤) في ت، أ: "أنه نزل".
(٥) في ت، أ: "وفيه تطويل".
(٦) في ت، أ: "لصفة".
(٧) البيت في تفسير الطبري (١٦/٣٢١) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 7 أكتوبر 2024

من سورة يوسف

🎉‏صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٩
من سورة يوسف 
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰۤۗ أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يوسف ١٠٩]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أرسلَ رسُلَه مِنَ الرِّجَالِ لَا مِنَ النِّسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوحِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ بَنِي آدَمَ وَحي تَشْرِيعٍ.وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ سَارَّةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ، وَأُمَّ مُوسَى، وَمَرْيَمَ أَمَّ عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بَشَّرَتْ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الْآيَةَ. [الْقَصَصِ: ٧] ، وَبِأَنَّ الْمَلَكَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ فَبَشَّرَهَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢، ٤٣] .وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُنَّ نَبِيَّاتٍ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِنُبُوَّتِهِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّشْرِيفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا؟ الَّذِي عَلَيْهِ [أَئِمَّةُ](١) أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِنَّ صِدِّيقَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَشْرَفِهِنَّ مريمَ بِنْتِ عِمْرَانَ حَيْثُ قَالَ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٥] فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ، فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾(٢) أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ الْآيَةَ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨، ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَحْقَافِ: ٩] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الْمُرَادُ بِالْقُرَى: الْمُدُنُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي، الَّذِينَ هُمْ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعًا وَأَخْلَاقًا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ أَهْلَ الْمُدُنِ أَرَقُّ طِبَاعًا، وَأَلْطَفُ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَأَهْلُ الرِّيفِ وَالسَّوَادِ أَقْرَبُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي الْبَوَادِي؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٩٧] .وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مَنْ أَهْلَ الْعَمُودِ.وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَاقَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِيهِ وَيَزِيدُهُ حَتَّى رَضِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ، أَوْ دَوْسِي".(٣)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ [ابْنُ](٤) عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".(٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ﴾ [يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ،](٦) ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦] ، فَإِذَا اسْتَمَعُوا(٧) خَبَرَ ذَلِكَ، رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾(٨) أَيْ: وَكَمَا أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٠، ٥١] .وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ كَمَا يُقَالُ: "صَلَاةُ الْأُولَى" وَ"مَسْجِدُ الْجَامِعِ" وَ"عَامُ الْأَوَّلِ" وَ "بَارِحَةُ الْأُولَى" وَ"يَوْمُ الْخَمِيسِ". قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ(٩) عَبْسًا ... أَلَا لِلَّهِ أمَّكَ مِنْ هَجين ...وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ ... عَرَفْتَ الذُّلَّ عرْفانَ اليَقين(١٠)

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في ت: "يوحى".
(٣) رواه أحمد في المسند (١/٢٩٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٤) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٥) المسند (٢/٤٣) .
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت، أ: "استعملوا".
(٨) في ت، أ: "يتقون" وهو خطأ.
(٩) في ت: "وتمدح".
(١٠) البيتان في تفسير الطبري (١٦/٢٩٥) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 5 أكتوبر 2024

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٠
من سورة يوسف 
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا ٱسۡتَیۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَاۤءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّیَ مَن نَّشَاۤءُۖ وَلَا یُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ [يوسف ١١٠]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رُسُلِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] ، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿كُذِبُوا﴾ قِرَاءَتَانِ، إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ: "قَدْ كُذِّبُوا"، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقْرَؤُهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ:حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد، بن صالح، عن ابن شهاب قال: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ قَالَ: قُلْتُ: أكُذِبوا أَمْ كُذِّبوا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبوا. فَقُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبوهم فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلْ، لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهَا: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ(١) مَعَاذَ اللَّهِ، لَمْ تَكُنِ(٢) الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ، ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كذَّبوهم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ.حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَة، فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا قَدْ كُذِبوا مُخَفَّفَةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ.(٣)وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبَى مُلَيْكة: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ خَفِيفَةً -قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُلَيْكة: ثُمَّ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بَشَرًا(٤) وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤] ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: مَا وَعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَتَّى مَاتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كذَّبوهم. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَؤُهَا "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا" مُثْقَلَةً، لِلتَّكْذِيبِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ(٥) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ فَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبِرْهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ تَقُولُ: كَذَّبَتْهُمْ أَتْبَاعُهُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ مُخَفَّفَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي تَكْرَهُ.(٦)وَهَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ آخَرُونَ عَنْهُمَا. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جَاءَهُمُ النَّصْرُ عَلَى ذَلِكَ، ﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾(٧)وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعلي بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَارِمٌ(٨) أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ(٩) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرة(١٠) الجزرِيّ قَالَ: سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ، فَإِنِّي إِذَا أَتَيْتُ عَلَيْهِ تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدِّقوهم، وَظَنَّ المرسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبوا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ! لَوْ رَحَلْتُ فِي هَذِهِ إِلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا.ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَار سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَقَالَ: فرَّج اللَّهُ عَنْكَ كَمَا فَرجت عَنِّي.وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدُ بْنُ جَبْر، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، حَتَّى إِنَّ مُجَاهِدًا قَرَأَهَا: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا"، بِفَتْحِ الذَّالِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ مَنْ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ يُعِيدُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ إِلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُهُ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ: وَظَنَّ الْكُفَّارُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذبوا -مُخَفَّفَةً -فِيمَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ.وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ(١١) عَنْ جَحش(١٢) بْنِ زِيَادٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَم قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ(١٣) وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا، بِالتَّخْفِيفِ.(١٤)فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ كُلٍّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَ الْمَشْهُورَ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الْآخَرَ بِالْكُلِّيَّةِ، وردَّهُ وأبَاه، وَلَمْ يَقْبَلْهُ وَلَا ارْتَضَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(١٥)

(١) في ت، أ: "فقالت".
(٢) في ت: "يكن".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٥، ٤٦٩٦) .
(٤) في أ: "بشروا".
(٥) في ت، أ: "يقرأ".
(٦) في أ: "يكره".
(٧) في ت: "فننجي".
(٨) في ت: "غارم".
(٩) في أ: "شعبة".
(١٠) في ت، أ: "أبي حمزة".
(١١) في أ: "فضل".
(١٢) في ت، أ: "محسن".
(١٣) في ت، أ: "لهم".
(١٤) في ت، أ: "مخففة".
(١٥) انظر ما قالته عائشة في: تفسير الطبري (١٦/٣٠٧، ٣٠٨) ورد الطبري لقول ابن عباس (١٦/٣٠٦) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩٣_٩٥
من سورة يوسف 
﴿ٱذۡهَبُوا۟ بِقَمِیصِی هَـٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِی یَأۡتِ بَصِیرࣰا وَأۡتُونِی بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِینَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِیرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّی لَأَجِدُ رِیحَ یُوسُفَۖ لَوۡلَاۤ أَن تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا۟ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِی ضَلَـٰلِكَ ٱلۡقَدِیمِ (٩٥)﴾ [يوسف ٩٣-٩٥]

يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ، ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ وَكَانَ قَدْ عَميَ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ، ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ: بِجَمِيعِ بَنِي يَعْقُوبَ.﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ أَيْ: خَرَجَتْ مِنْ مِصْرَ، ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يَعْنِي: يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ بَنِيهِ: ﴿إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ تَنْسِبُونِي إِلَى الفَنَد والكِبَر.قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سِنَان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيْل قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ، هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ فَقَالَ: ﴿إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قَالَ: فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ(١) .وَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سِنَان، بِهِ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْج: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُنْذُ افْتَرَقَا ثَمَانُونَ سَنَةً.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: تُسَفّهون.وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ: تُهرّمون.
* * *وَقَوْلُهُمْ: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَفِي خَطَئِكَ الْقَدِيمِ.وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ وَلَا تَسَلَاهُ، قَالُوا لِوَالِدِهِمْ كَلِمَةً غَلِيظَةً، لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِوَالِدِهِمْ، وَلَا لِنَبِيِّ اللَّهِ ﷺ(٢) وَكَذَا قَالَ السدي، وغيره.

(١) تفسير عبد الرزاق (١/٢٨٦) .
(٢) في أ: "عليه السلام".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩٩_١٠٠
من سورة يوسف 
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا۟ عَلَىٰ یُوسُفَ ءَاوَىٰۤ إِلَیۡهِ أَبَوَیۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُوا۟ مِصۡرَ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ ءَامِنِینَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَیۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدࣰاۖ وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّی حَقࣰّاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِیۤ إِذۡ أَخۡرَجَنِی مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَاۤءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بَیۡنِی وَبَیۡنَ إِخۡوَتِیۤۚ إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ (١٠٠)﴾ [يوسف ٩٩-١٠٠]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُرُودِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقُدُومِهِ بِلَادَ(١) مِصْرَ، لَمَّا كَانَ يُوسُفُ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى إِخْوَتِهِ أَنْ يَأْتُوهُ بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَتُحُمِّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَتَرَحَّلُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ قَاصِدِينَ بِلَادَ(٢) مِصْرَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِاقْتِرَابِهِمْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِمْ، وَأَمَرَ [الْمَلِكُ](٣) أُمَرَاءَهُ وَأَكَابِرَ النَّاسِ بِالْخُرُوجِ [مَعَ يُوسُفَ](٤) لِتَلَقِّي نَبِيَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ خَرَجَ أَيْضًا لِتَلَقِّيهِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ.وَقَدْ أُشْكِلَ قَوْلُهُ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ عَلَى كَثِيرٍ(٥) مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ وَآوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَرَفَعَهُمَا عَلَى الْعَرْشِ.وَقَدْ رَدَّ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا. وَأَجَادَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَارَ مَا حَكَاهُ عَنِ السٌّدِّي: أَنَّ يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لَمَّا تَلَقَّاهُمَا، ثُمَّ لَمَّا وَصَلُوا بَابَ الْبَلَدِ قَالَ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾وَفِي هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ آوَى مُحْدِثًا" وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَآوَاهُمْ إِلَيْهِ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ وضمَّنه: اسْكُنُوا مِصْرَ ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ أَيْ: مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْقَحْطِ، وَيُقَالُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ بِبَرَكَةِ قُدُومِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَفَعَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الَّتِي دَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ"، ثُمَّ لَمَّا تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَاسْتَشْفَعُوا لَدَيْهِ، وَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَانَ فِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُمْ، فَرُفِعَ عَنْهُمْ بَقِيَّةُ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ(٦) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّمَا كَانَ أَبَاهُ(٧) وَخَالَتَهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ قَدِيمًا.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَعِيشَانِ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَوْتِ أُمِّهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يدل على حياتها. وهذا الذي نصره هُوَ الْمَنْصُورُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي السَّرِيرَ، أَيْ: أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ.﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أَيْ: سَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ الْبَاقُونَ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيِ: الَّتِي كَانَ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٤]وَقَدْ كَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرَائِعِهِمْ إِذَا سلَّموا عَلَى الْكَبِيرِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا جَائِزًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحُرِّمَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وجُعل السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِجَنَابِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.هَذَا مَضْمُونُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ.وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ الشَّامَ، فَوَجَدَهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ " فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الزَّوْجَةَ(٨) أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظم(٩) حَقِّهِ عَلَيْهَا"(١٠)وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ سَلْمَانَ لَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ طُرُق الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَلْمَانُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: "لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ، وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ"(١١) .وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَعِنْدَهَا قَالَ يُوسُفُ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ أَيْ: هَذَا مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٣] أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِيهِمْ مَا وُعِدُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ أَيْ: صَحِيحَةً صِدْقا، يَذْكُرُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ أَيِ: الْبَادِيَةِ.قَالَ ابْنُ جُرَيْج وَغَيْرُهُ: كَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وَمَاشِيَةٍ. وَقَالَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ بالعَربَات مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، مِنْ غَوْرِ الشَّامِ. قَالَ: وَبَعْضٌ يَقُولُ: كَانُوا بِالْأَوْلَاجِ مِنْ نَاحِيَةِ شِعْبٍ أَسْفَلَ مِنْ حسمَى، وَكَانُوا أَصْحَابَ بادية وشاء(١٢) وإبل.﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [ثُمَّ قَالَ](١٣) ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَمْرًا قَيَّضَ لَهُ أَسْبَابًا وَيَسَّرَهُ وَقَدَّرَهُ، ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا يَخْتَارُهُ وَيُرِيدُهُ.قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ(١٤) كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَتَأْوِيلِهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَإِلَيْهَا(١٥) يَنْتَهِي أَقْصَى الرُّؤْيَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مُنْذُ(١٦) فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الْحُزْنُ قَلْبَهُ، وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَبَدٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ يَعْقُوبَ(١٧) .وَقَالَ هُشَيْم، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ(١٨) سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ.وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذُكر -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ غَيْبَةَ يُوسُفَ عَنْ يَعْقُوبَ كَانَتْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً -قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ(١٩) سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، وَأَنَّ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَقِيَ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنَّ قَدِمَ عَلَيْهِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ إِنْسَانًا، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا.وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وَتِسْعُونَ مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَاِمْرَأَةٍ. وَاللَّهُ(٢٠) أَعْلَمُ.وَقَالَ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: اجْتَمَعَ آلُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ بِمِصْرَ. وَهُمْ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ.

(١) في أ: "على".
(٢) في ت، أ: "ديار".
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "كثيرين".
(٦) رواه البخاري في صحيحه برقم (١٠٠٧) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٧) في ت: "أبوه".
(٨) في ت، أ: "المرأة"
(٩) في ت: "عظيم".
(١٠) رواه أحمد في المسند (٤/٣٨١) وابن ماجه في السنن برقم (١٨٥٣) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن حبان.
(١١) رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (٢/١٠٣) من طريق شهر بن حوشب، عن سلمان رضي الله عنه، وسيأتي عند تفسير الآية: ٥٨ من سورة الفرقان.
(١٢) في أ: "وماشية".
(١٣) زيادة من ت، أ.
(١٤) في أ: "عن سلمان قال".
(١٥) في ت: "وإليه".
(١٦) في ت: "مذ".
(١٧) تفسير الطبري (١/٢٧٣) .
(١٨) في أ: "ثمانون".
(١٩) في أ: أربعون".
(٢٠) في ت، أ: "فالله".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة يوسف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٩
من سورة يوسف 
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰۤۗ أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يوسف ١٠٩]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أرسلَ رسُلَه مِنَ الرِّجَالِ لَا مِنَ النِّسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوحِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ بَنِي آدَمَ وَحي تَشْرِيعٍ.وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ سَارَّةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ، وَأُمَّ مُوسَى، وَمَرْيَمَ أَمَّ عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بَشَّرَتْ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الْآيَةَ. [الْقَصَصِ: ٧] ، وَبِأَنَّ الْمَلَكَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ فَبَشَّرَهَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢، ٤٣] .وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُنَّ نَبِيَّاتٍ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِنُبُوَّتِهِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّشْرِيفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا؟ الَّذِي عَلَيْهِ [أَئِمَّةُ](١) أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِنَّ صِدِّيقَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَشْرَفِهِنَّ مريمَ بِنْتِ عِمْرَانَ حَيْثُ قَالَ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٥] فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ، فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾(٢) أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ الْآيَةَ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨، ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَحْقَافِ: ٩] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الْمُرَادُ بِالْقُرَى: الْمُدُنُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي، الَّذِينَ هُمْ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعًا وَأَخْلَاقًا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ أَهْلَ الْمُدُنِ أَرَقُّ طِبَاعًا، وَأَلْطَفُ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَأَهْلُ الرِّيفِ وَالسَّوَادِ أَقْرَبُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي الْبَوَادِي؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٩٧] .وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مَنْ أَهْلَ الْعَمُودِ.وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَاقَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِيهِ وَيَزِيدُهُ حَتَّى رَضِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ، أَوْ دَوْسِي".(٣)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ [ابْنُ](٤) عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".(٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ﴾ [يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ،](٦) ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦] ، فَإِذَا اسْتَمَعُوا(٧) خَبَرَ ذَلِكَ، رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾(٨) أَيْ: وَكَمَا أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٠، ٥١] .وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ كَمَا يُقَالُ: "صَلَاةُ الْأُولَى" وَ"مَسْجِدُ الْجَامِعِ" وَ"عَامُ الْأَوَّلِ" وَ "بَارِحَةُ الْأُولَى" وَ"يَوْمُ الْخَمِيسِ". قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ(٩) عَبْسًا ... أَلَا لِلَّهِ أمَّكَ مِنْ هَجين ...وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ ... عَرَفْتَ الذُّلَّ عرْفانَ اليَقين(١٠)

(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في ت: "يوحى".
(٣) رواه أحمد في المسند (١/٢٩٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٤) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٥) المسند (٢/٤٣) .
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت، أ: "استعملوا".
(٨) في ت، أ: "يتقون" وهو خطأ.
(٩) في ت: "وتمدح".
(١٠) البيتان في تفسير الطبري (١٦/٢٩٥) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))